كشفت وثائق تاريخية صادرة عن الخارجية البريطانية تعود إلى حقبة الستينيات من القرن الماضي عن وساطة غير رسمية للخارجية البريطانية بين مصر والسودان ودول القرن الإفريقي بغية الوفاق حول نسق مشترك للتعامل مع مياه النيل، خاصة النيل الأبيض. إلا أن تلك الرعاية البريطانية قد أسفرت عن توقعات لدبلوماسييها سطرتها الوثائق المكتشفة مؤخراً، والتي أفادت بأنه حال نجاح مخططات أديس أبابا لبناء سد ضخم على مجرى مياه النيل الأزرق، فإن ذلك سيضع المصريين في موقف صعب للغاية "يحتاج إلى عون إلهي" لمواجهته.
يأتي الكشف عن تلك الوثائق في وقت تشهد فيه العلاقات توتراً كبيراً بين إثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من جهة أخرى. حيث صرّحت القاهرة والخرطوم برفضهما إعلان إثيوبيا بدء الملء الثاني لسد النهضة، واصفةً إياه بـ"تصعيد خطير يكشف عن سوء نية إثيوبيا ورغبتها بفرض الأمر الواقع على دولتَي المصب".
وتخشى مصر والسودان عواقب الملء على كميات المياه المتدفقة إليهما. وتطالبان بالمشاركة في تشغيل السد الذي قد سبق أن اعترفتا به في اتفاقية إعلان المبادئ التي وُقعت في الخرطوم عام 2015. إلا أن هذه الاتفاقية قد أظهرت عدم وجود ضمانات كافية للقاهرة والخرطوم للحفاظ على منشآتهما المائية واستمرار تدفُّق حصتيهما السنوية من مياه نهر النيل.
"نظرة مصر غير مفهومة"
جاء خروج الوثائق البريطانية للعلن كالصاعقة، إذ كشفت عن ضحالة النظام المصري في أثناء حكم الرئيس جمال عبد الناصر، وعدم اكتراثه بملف حيوي ومصيري كملف مياه النيل.
الوثائق تؤكد شروع بريطانيا عام 1961 في رعاية مفاوضات "فنية غير رسمية" بين مصر والسودان ودول شرق إفريقيا، حيث كانت تنكب المفاوضات على خلق تعاون والخروج بصيغة مشتركة بين تلك الدول حول التعامل مع مياه النيل.
لكن دور بريطانيا في هذا الملف لم يكتمل، حيث سرعان ما انتهى البريطانيون إلى أن "نظرة مصر (تجاه إثيوبيا تحديداً) غير مفهومة". وأن البريطانيين "كانوا في حيرة ناتجة عن إدراكهم أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة (مصر) تبدو مستعدة جداً لإثارة غضب الإثيوبيين".
ومن بين تلك الوثائق ثَمّة تقييم للقاء تم بين مسؤولي السفارة البريطانية في القاهرة والمسؤولين المصريين خلال عامي 1960 و1961 حول قضية العلاقات الإثيوبية المصرية، وعن تردد بعض المزاعم أن إثيوبيا تخطط لتحويل مجرى مياه النيل الأزرق، الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا، بعيداً من مجرى وادي النيل.
وتحديداً في يوم 20 من شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1961، التقى أحد دبلوماسيي السفارة البريطانية بالقاهرة بمحمد فائق، مستشار عبد الناصر للشؤون الإفريقية. ويشير التقييم الصادر بحق هذا الاجتماع إلى أن الدبلوماسي البريطاني تطرق في أثناء حديثه مع فائق إلى احتمالية امتلاك إثيوبيا مقدرة على حجز المياه عن مصر من خلال بناء سد على مجرى مياه النيل الأزرق.
لكن دُهش الدبلوماسي البريطاني من رد فائق بأن "الدراسات الفنية التي أجريت في القاهرة أظهرت أنه حتى لو توفرت للإثيوبيين أموال لا حدود لها، فإنه لا يمكنهم حجز أكثر من 1 من 13 من مياه النيل الأزرق". وأردف فائق أنه "بمجرد ملء خزان سد أسوان (السد العالي لاحقاً) فإن هذا الأمر لن يهم".
يذكر أنه بالإضافة إلى تصريحات مستشار ناصر للشؤون الإفريقية، فإن القاهرة عمدت إلى "إغاظة الإثيوبيين متى أمكنها، وخاصة فيما يتعلق بالصومال". حيث مال نظام عبد الناصر لتأييد موقف الصومال في الصراع الحدودي الدائر بينه وبين إثيوبيا في منطقة القرن الإفريقي والذي وصل إلى ذروته عام 1964. ولم يكترث ناصر إلى الأهمية الاستراتيجية التي تحملها أديس أبابا للقاهرة، مع إن الأولى تملك مصدر 75 في المئة من مياه النيل المصرية.
أزمة مياه النيل من ناصر إلى السيسي
أجملت الوثائق البريطانية ما آمن به نظام عبد الناصر بحق نظرته لإثيوبيا في الستينيات، حيث أفادت بوجود اعتقاد راسخ لدى ناصر ورفاقه بأن "تتفكك الدولة الإثيوبية إبان موت الإمبراطور (هيلا سيلاسي)". لذا لا داعي للذعر من مخططات إثيوبيا "التي على أية حال لا تملك الأموال الكافية لتنفيذ مشاريعها".
عقّب الدبلوماسي البريطاني في تقريره على سماعه لتلك المزاعم المصرية بأنه سيكون هناك عواقب وخيمة حال عدم تحقق تلك التصورات، "لو تبين خطأ المصريين، فستكون تلك نهايتهم". واستناداً إلى هذا التقرير توقعت الخارجية البريطانية أن تواجه القاهرة مشكلة لا قبل لها بها مع أديس أبابا بسبب المياه، وهو ما يبدو أن الأمور وصلت إليه اليوم.
جدير بالذكر أن الملء الثاني لسد النهضة يأتي وسط حالة تأهب من إثيوبيا، حيث أعلنت وزارة الدفاع الإثيوبية رفع انتشار قواتها في منطقة سد النهضة بهدف تأمين المرحلة الثانية من عملية ملئه، وذلك استعداداً لأي عمل عسكري محتمل من قبل مصر أو السودان.
وفي السياق ذاته، يقول ويليام دافيسون كبير مُحللي شؤون إثيوبيا في مجموعة الأزمات الدولية في تصريح أدلى به لموقع مدى مصر حول خلفية النزاع القائم، بأن موقف إثيوبيا قائم بالأساس على اتفاقية إعلان المبادئ في 2015 التي تورط فيها النظامان المصري والسوداني، ولأول مرة اعترفا ضمنياً بسد النهضة. وأردف أن أديس أبابا "التزمت فقط بالموافقة على خطوط إرشادية وقواعد بشأن التعبئة الأولى والتشغيل السنوي لسد النهضة، وأنها لم تلتزم باتفاقية قانونية شاملة كاملة بشأن هذه المسألة".
وعلاوة على ذلك، تشير إثيوبيا إلى بعض بنود اتفاق المبادئ، التي تقول: "لمالك السد حق التعديل، من حين لآخر، في قواعد التشغيل السنوية، ويمكن الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التعبئة بالتوازي مع بناء سد النهضة"، مؤكدة أن الملء هو جزء من البناء.