تابعنا
''الوضع لا يحتمل.. نحن الآن في مسار دستوري وتوجد صلاحيات دستورية واضحة ومن غير الممكن البقاء بوزراء لم يباشروا مهامهم''. كان هذا ما صرّح به رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي الاثنين لدى زيارته لمقر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
كان من المقرر أن يرافق رئيس الحكومة التونسية، وزراؤه الجدد للتصريح بمكتسباتهم ومن ثمّ الانتقال إلى مباشرة مهامهم. ولوّح المشيشي بأنه سيمرّ إلى الجانب الإجرائي، إذا ما تواصلت ''أزمة اليمين''، قائلاً في هذا الصدد: ''في أقرب الآجال سيتم الإجراء اللازم ليتمكن الوزراء الجدد من ممارسة مهامّهم''، بعد حوالي أسبوع من منح البرلمان التونسي الثقة لتحوير حكومي بـ11 وزيراً جديداً لكن رئيس الجمهورية لم يدعهم إلى اليوم لأداء اليمين الدستورية.

وكان رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد، قد عبّر عن رفضه في كلمة ألقاها خلال الاجتماع الأخير لمجلس الأمن القومي بقصر الرئاسة بقرطاج، دعوة الوزراء الجدد أداء اليمين الدستورية أمامه وانطلاقهم مباشرة في مهامهم معلّلا قراره بعدم استشارته من قبل رئيس الحكومة خلال التحوير الحكومي إضافة إلى وجود شبهات فساد تلاحق البعض منهم.

ويبقى السؤال الجوهري مطروحاً حول مدى دستورية موقف رئيس الجمهورية؟ وهل من مخرج للأزمة في ظلّ تمسك كلّ طرف بشرعية المسار الذي توخاه؟

المحلّل السياسي منذر ثابت في حديثه لـTRT عربي، قال إنّ مباشرة الوزراء الجدد لمهامهم من دون أداء اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية يمثّل إحراجاً من الناحية الدستورية باعتبار أن الدستور يلزم الرئيس قبول الوزراء لأداء اليمين.

ووصف منذر ثابت قرار رفض قبول الوزراء لأداء اليمين بـ ''الحالة العبثية''، وأضاف قائلاً ''إن تواصل ذلك يمكن الاتجاه لتفعيل خيار الإجراء المستحيل الذي تحدّث عنه الخبير الدستوري عياض بن عاشور عبر دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين إما أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين (هيئة وقتية تعوض المحكمة الدستورية) أو المحكمة الإدارية.

ولفت ثابت إلى أن إجراء أداء اليمين أمام رئيس الدولة في حد ذاته إجراء شكلي، وبالتالي فإنه من الناحية الشرعية يعدّ نيل الثقة من البرلمان ''إجراء كافياً ومركزياً''، على حد تعبيره.

وذكّر ثابت أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد كان قد اعتبر قبل أن يصبح رئيساً للبلاد، أن النظام الداخلي للبرلمان غير دستوري وبالتالي رئيس الحكومة غير ملزم دستورياً بالتشاور مع الرئيس، وهي حجة مضادة يمكن أن توجّه ضد قيس سعيد الذي أصبح اليوم يطالب بضرورة التشاور معه قبل القيام بالتحوير.

وأضاف ''بناء عليه، فإن مسار التحوير في الحكومة الحالية يعتبر سليماً ومن المؤكّد أن يباشر الوزراء مهامهم في الأيام القليلة القادمة مثلما أكد ذلك رئيس الحكومة هشام المشيشي''، على حد قوله .

واعتبر ثابت ''أن عدم دعوة الوزراء لأداء اليمين من قبل رئيس الجمهورية يعتبر إخلالاً بواجب مقيدّ حتى وإن كان هذا الواجب شكلياً ما يعني بالضرورة خرقاً لأحكام الدستور''، مستدركاً بالقول: ''لكن الإشكال يتواصل بما أن حالة الخرق لا يمكن أن توصّف في غياب المحكمة الدستورية''.

وأشار المحلل السياسي، إلى أن غياب المحكمة الدستورية يشكّل ثغرة مهمة خاصة وأن النظام السياسي الذي أرساه دستور 26 يناير/كانون الثاني 2014 فيه كثير من التهافتات ويوجب كثيراً من التوافقات من الصعب أن تتحقق في حال وجود نزاع سياسي بين رؤوس السلطة''، وفق تعبيره.

وأوضح أن صلاحيات رئيس الجمهورية وفق النظام السياسي الحالي تمتد فقط إلى رئاسة مجلس الأمن القومي وكل من وزارتي الدفاع والخارجية، وحتى في حالة الدفاع والخارجية يبقى الرئيس ملزماً بالتشاور مع رئيس الحكومة حول الشخصيات التي يرشحها للمنصبين.

ويرى ثابت أن هناك محاولة من رئيس الجمهورية لتمديد مفهوم الأمن القومي من خلال حديثه حول واجب مجابهة "العدوّ الداخلي والخارجي"، وهو تمديد غير ذي صلاحية باعتبار أن الدستور حدد مسبقاً مهام رئيس الجمهورية ما يعني أن تمديد صلاحيات مجلس الأمن القومي إلى مجالات وقطاعات داخل الحكومة أمر غير ممكن، وسيفضي إلى علاقة متوترة مع رئيسي الحكومة والبرلمان.

ويكمن الإشكال حسب منذر ثابت أننا لا نعلم تحديداً ما يريده رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي يحمل رؤية استنساخ تجارب المجالس واللجان الشعبية في طرحها الفوضوي والذي لم يطرح لحد الآن أي بديل للنظام القائم حالياً بطريقة صريحة ومباشرة.

واعتبر ثابت أن الأزمة الحالية في تونس أزمة مركبة تتحمل مسؤوليتها كلّ الأطراف دون استثناء ممن سعوا إلى إرساء نظام شبه برلماني هجين يوجب التوافقات ويفسح المجال لتنازع الصلاحيات ويكرس عدم الاستقرار السياسي .

وقدّر ثابت أنه ''حتى بتغيير القانون الانتخابي الحالي ستواجه تونس مشكلة هشاشة الأحزاب التي من الممكن أن تفسح المجال مرة أخرى لفوز حركة النهضة باعتبار أنها الحزب الوحيد في الساحة السياسية المهيكل والصلب.

ورجّح المحلل السياسي منذر ثابت أن تغيير النظام الحالي بنظام رئاسي من الوارد أن يضمن التعددية والاستقرار السياسي المطلوب.

من جهتها، أفادت أستاذة القانون الدستوري بالجامعة التونسية منى كريّم، أن أداء الوزراء اليمين أمام رئيس الجمهورية إجراء جوهري لا يمكن لأيّ وزير المباشرة بدونه، واعتبرت أن تعبير رئيس الجمهورية عن رفضه قبول الوزراء الجديد لأداء اليمين لا يستقيم دستورياً بما أن رئيس الجمهورية في اختصاص مقيد والدستور لم يترك له حرية القبول أو الرفض.

وحذّرت كرّيم، من أن دعوة رئيس الدولة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية سيعمق الأزمة السياسية الموجودة أساساً. وبيّنت كريّم في تصريح لـTRT عربي أنه ليس من حق رئيس الجمهورية أن يرفض ذلك -خاصة بعد أن أعلن ذلك بشكل رسمي- أو يقوم بعرقلة تسلّم الوظيفة، وهو ما لا يستقيم دستورياً.

وفي المقابل، أقرت بأنه من حق رئيس الحكومة تسمية من يراه صالحاً لأي منصب وزاري. وحمّلت في الآن ذاته جميع الأطراف مسؤولية الأزمة السياسية القائمة.

وحول تبعات عدم دعوة الوزراء لأداء اليمين، قالت كريّم إنه بالنسبة إلى القانون والعرف والدستور فإن الأمر يعدّ واضحاً وليس من حق رئيس الجمهورية الرفض وهو ما يفضي بالضرورة الى خرق صريح للدستور خاصة في غياب المحكمة الدستورية.

من جهة أخرى، ترى منى كريّم أن ''القانون الانتخابي الحالي يعتبر جزءاً من الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، حيث إنه لا يسمح بإفراز أغلبية برلمانية منسجمة تكون سنداً للحكومة في عملها ما يحقق الاستقرار السياسي في البلاد''.

بدوره، لاحظ خبير القانون الدستوري عبد الرزاق المختار، أن تونس دخلت في سياق أزمة دستورية مؤسساتية، مبرزاً أنّ طرح بعض الخبراء المتخصصين في القانون الدستوري فرضية ''الإجراء المستحيل'' كمخرج من الأزمة الحالية مردّه أننا في مساحة خارج ما ينظمه الدستور خاصة في غياب المحكمة الدستورية.

وأوضح المختار أن الإجراء المستحيل لا يحلّ المشكل وإنما هو تبرير لاستمرارية الدولة وسماح للوزراء الجدد بممارسة مهامهم الفعلية ويقف الأمر عند هذا الحد حيث لا يمكن للوزير إصدار الأوامر أو حتى تسلّم راتبه لغياب الصفة، وفق قوله.

وأقر الخبير بالقانون الدستوري أن الحل لا يمكن أن يكون الاّ سياسياً بامتياز بعد إصرار كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة خلف مواقفهم، مشدداً على أن ما أقدم عليه رئيس الدولة يعدّ غير دستوريّ.

ولفت مختار إلى أنه يمكن في غياب المحكمة الدستورية إحالة الأمر إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين أو المحكمة الإدارية للفصل فيه.

وتابع عبد الرزاق المختار: ''من الممكن أن نجد أنفسنا في قطيعة وعطالة مع الداخل والخارج، حيث لا أحد سيفضل التعامل مع وزير مع إيقاف التنفيذ أو حكومة مشلولة''، حسب تعبيره.

وأضاف مختار أن الحرب أعلنت بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ، كما أنّ رئيس الحكومة هشام المشيشي خرج مبكراً من جبّة الرئيس واعتبر أن هذه الخماسية الحالية ان تمّت ستعيد بشكل أسوأ ما حدث بين رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.

وتوصيفاً للأزمة التي تعيشها تونس، قال المختار إن ''دمها قد وزّع بين القبائل على حد توصيفه ويتحمل مسؤوليتها الجميع دون استثناء.. رئيس يريد أن يمرر تأسيسه الجديد ورئيس حكومة يبحث عن موقع ورئيس برلمان يريد أن يحكم''.

وقدّر الخبير في القانون الدستوري أن النظام السياسي الحالي يحتاج إلى مراجعة إبان تركيز المحكمة الدستورية، مضيفاً أنّ ''لبّ المشكل اليوم هو إرادة الفاعلين السياسيين في إعادة رسم خريطة السلطة وإعادة التموقع، ورئيس يعتبر أنه يستحق صلاحيات أكثر من الممنوحة له ولا يريد البقاء في جلباب دستور 2014 ويسعى لتأزيم المؤزّم من خلال احتقاره للمنظومة السياسية باعتبارها أصل البلاء في الدنيا والآخرة''، وفق قوله.

وختم عبد الرزاق مختار حديثه لـ TRT عربي، بالتأكيد على ''ضرورة انتباه الفاعلين السياسيين للأولويات والانكباب على حل المعضلات العاجلة وتأجيل الصراع السياسي إلى حينه، لأن تونس تواجه مشاكل اجتماعية واقتصادية وصحيّة كثيرة وليست في حاجة لمزيد من الأزمات السياسية''.

تحبس تونس الأنفاس يوم انتهاء الآجال الدستورية، ما سيؤدي إلى إثبات خرق رئيس الجمهورية للدستور في حال تشبث بموقفه الرافض لدعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين ليصبحوا بذلك "وزراء مع إيقاف التنفيذ"، ما قد يفتح المجال أمام عديد القراءات والتأويلات ويفتح أبواب أزمة سياسية لا يمكن توقّع نهايتها أمام تمسّك كل طرف بموقفه.

TRT عربي