تابعنا
وما بين كل تلك الأرقام وغياب آليات متقدمة للتوثيق، لم تعلن جهة رسمية حصر العدد الكامل لشهداء غزة المجهولين، لكن من المؤكد أن المئات من سكان القطاع لم يَدعْهُم الاحتلال حتى ليستخدموا حقهم في الموت والدفن بشكل كريم.

حرب مدمرة شنها الاحتلال الإسرائيلي على مدى 48 يوماً بلا توقف على سكان قطاع غزة، قبل بدء الهدنة المؤقتة، أودت بحياة 15 ألف فلسطيني، لا ذنب لهم إلا أنهم يريدون العيش في أرضهم. 6150 طفلاً حكم عليهم الاحتلال بالموت قبل حتى أن يعرفوا معنى الحياة، و36 ألف شخص لن تفارق ندبات القصف أجسادهم طوال العمر.

وسُجل 7000 مفقود، من بينهم أكثر من 4700 طفل وامرأة لا يُعرف عنهم أي شيء، والاحتمال الأكبر أنه لن يراهم أحد مرة ثانية أحياءً أو أمواتاً، ومئات الأشخاص لم ينعموا حتى في موتهم، ودُفنوا أشلاء في مقابر جماعية، فلم يتعرف عليهم أحد حتى ذويهم.

منير البرش، مدير عام الصحة أعلن في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن الوزارة حفرت 4 مقابر جماعية، دُفنت فيها أكثر من 220 جثة لم يُتعرف على أصحابها.

الشيخ ياسر أبو عمار، مُشرف مغسلة الأموات في مستشفى شهداء الأقصى يؤمُّ الصلاة على الشهداء المجهولين  (Atia Darwish) (TRT Arabi)

وصرح أشرف القدرة، الناطق باسم وزارة الصحة في غزة، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، بأنهم دفنوا في مقبرة مستشفى الشفاء الجماعية شمالي القطاع ما بين 100 و120 جثة مجهولة.

وقبل بدء الهدنة بيوم، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن 111 جثة مجهولة الهوية دُفنت في مقبرة جماعية بمدينة خان يونس جنوب القطاع، ووصلت الجثث في أكياس زرقاء على ظهر شاحنة، ومن المرجح أنها قادمة من مستشفى الشفاء وبيت حانون، شمالي غزة.

وخلال الأيام الماضية من الهدنة المؤقتة، التي انتهت اليوم، انتشلت فرق الدفاع المدني نحو 250 جثة لشهداء من الشوارع والطرقات في مدينة غزة وشمال القطاع، وقال الناطق باسم الدفاع المدني الرائد محمود بصل لـ"الجزيرة نت"، إن 90% من هذه الجثث متحللة ومجهولة الهوية.

جثث تُوثَّق بتاريخ القصف

وما بين كل تلك الأرقام وغياب آليات متقدمة للتوثيق، لم تعلن جهة رسمية حصر العدد الكامل لشهداء غزة المجهولين، لكن من المؤكد أن المئات من سكان القطاع لم يَدعْهُم الاحتلال حتى ليستخدموا حقهم في الموت والدفن بشكل كريم.

متطوعون يدفنون جثامين الشهداء المجهولين في مقبرة جماعية. (Atia Darwish) (TRT Arabi)

"عائلات بالكامل حُذفت من السجل المدني، عائلات غير معروفة نزحت من غزة إلى المنطقة الوسطى والجنوب، طلباً للأمان واستُهدفوا وقُتلوا، لم يسبق لنا أن استقبلنا مثل هذه الأعداد الكبيرة من الشهداء"، هكذا يصف محمد الحاج، مسؤول العلاقات العامة في مستشفى شهداء الأقصى في المنطقة الوسطى، حجم الجثث.

ويضيف الحاج لـTRT عربي، أنهم دفنوا ما يقرب من 150 جسداً لشهداء مجهولين لم يُتعرف عليهم في أثناء فترة الحرب، بالإضافة إلى 30 آخرين منذ بدء الهدنة في 24 نوفمبر/تشرين الثاني.

وفي ظل انهيار المؤسسة الصحية إثر العدوان الغاشم، يبيّن الحاج آلية توثيق هذه الجثث المجهولة، إذ تجري عبر لجنة مشكّلة من الشرطة والصحة والمستشفى، توثقهم بأرقام بدلاً من أسمائهم، وبيانات القصف الصهيوني بدلاً من بياناتهم.

جثث الشهداء مجهولي الهوية موثّقة بالأرقام بدلاً من أسمائهم، وبيانات القصف الصهيوني بدلاً من بياناتهم. (Atia Darwish) (TRT Arabi)

ويردف: "نسجل مكان القصف وتاريخه وفي أي ساعة، ومن حضر معهم إلى المستشفى وقتها من الجرحى أو الشهداء المعروفين، وأيضاً نصوّر الجثة لحين التعرف عليها".

الشيخ ياسر أبو عمار، مُشرف مغسلة الأموات في مستشفى شهداء الأقصى، يصف حالة أجساد الشهداء التي تصل إلى المغسلة بأن 80% منها تأتي ممزقة، لدرجة أن أعضاءهم الداخلية تكون ظاهرة، لافتاً إلى أنه طوال ممارسته لهذه المهنة لم يقابل جثثاً بهذه الصورة، ولم يكن يخطر بباله أنه سيرى شيئاً بهذه البشاعة في حياته، لكن هذه المناظر المفزعة ظهرت في مغاسل غزة بعد الحرب فقط.

ويضيف أبو عمار لـTRT عربي: "نرى أجساداً محروقة، بعضها تعرض لدرجة حرارة تفوق الثمانين درجة مئوية، كأن الجسد يخرج من فرن شواء.. أمر عجيب"، لافتاً إلى أن بعضهم لا يستطيع حتى أهله التعرف عليه، ويُقلّبون في الجثمان، محاولين إيجاد علامة يتعرفون بها على الجسد، فلا يستطيعون من فرط التشوه.

متطوّعون في غزة يحفرون مقبرة جماعية لدفن الجثث التي لم يتعرّف أحدٌ عليها. (Atia Darwish) (TRT Arabi)

بدوره يقول مسؤول في وزارة العدل، إن هذا العدد من الضحايا في غزة دليل جديد على جريمة الإبادة الجماعية، مشيراً إلى أن سقوط المئات من الشهداء مجهولي الهوية في قطاع غزة هو بمثابة وصمة عار على جبين الإنسانية ودليل قطعي على جرائم تطهير عرقي، ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في القطاع.

المسؤول -الذي لم يُفضل ذكر اسمه- يؤكد لـTRT عربي، أن القانون الدولي والإنساني شددا على ضرورة احترام الحق في الحياة كأول حق للإنسان، واتفاقيات جنيف الأربع تقتضي أهمية تجنيب المدنيين العمل العسكري في الحرب، وهو ما لم تطبقه دولة الاحتلال، بل ارتكبت جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين تستوجب التوقف عن التنديد اللفظي والبدء بالمحاكمة الفعلية والفورية لمرتكبيها.

ويلفت المسؤول إلى أن الآلة العسكرية والسلاح المستخدَم ضد المدنيين العزل ثبت أنهما مُصنّعان للأماكن المحصنة وللمناطق الجبلية، مبيناً أن ذلك تسبب في وقوع المئات من الشهداء الذين نُقلوا إلى المشافي، وقد اختفت ملامحهم بشكل كامل نتيجة الاحتراق بفعل هذه الأسلحة والقنابل وبراميل المتفجرات.

جثث الشهداء المجهولين محمّلة على ظهر عربة وصلت إلى مكان الدفن الجماعي. (Atia Darwish) (TRT Arabi)

طرق بدائية للتعرف على الجثث

لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بحرمان الشهداء من دفنهم بكرامة في مقابر عائلاتهم، بل أعاق إحداث آليات للتعرف عليهم، بسبب الدمار الكامل الذي نتج عن القصف في مؤسسات القطاع، ولم يتبقّ إلا الطرق البدائية لسكان غزة.

ويقول أبو عمار: "إذا كان الجسد أو الوجه فيهما شيء ظاهر نصوِّره ونحتفظ بصورته لحين البحث عنه أو قدوم ناس يسألون عن مفقودين، وقتها نعرض لهم الصور ليتأكدوا إنْ كان ذووهم موجودين، لكن في معظم الأحوال تكون الجماجم مهشمة والوجوه محروقة والجسد كله مقطعاً، فلا يُتعرَف عليهم".

ويوضح مشرف مغسلة الموتى أنه إذا كان عند الشخص علامة مميزة، شامة أو إصابة قديمة ظاهرة في القدم أو اليد أو في بعض أجزاء الجسد، في بعض الأحيان قد يُسهّل التعرف عليه من أهله، وأحياناً يستدلون عليه من بقايا ملابسه المحروقة، أما آلية الحمض النووي فللأسف غير متاحة في ظل هذا الوضع.

صورة في أثناء دفن جثامين الشهداء مجهولي الهوية في إحدى المقابر الجماعية.  (Atia Darwish) (TRT Arabi)

وبالإضافة إلى عدم التعرّف على الشهداء، يواجه المغسّلون مشكلة كبيرة في أثناء محاولة تجميع الجسد أو تغسيله وتكفينه، إذ تكون الجثة مقطعة ومهترئة من الحرق، ويتابع أبو عمار: "نحاول قدر الإمكان تجميع أعضاء الجسد في كفن واحد، ولكن لا نستطيع تغسيله أو حتى تكفينه، فنضع قطعة من البلاستيك لحماية الكفن من الدماء الناتجة عن التمزيق".

أكفان جماعية ومنامات مفزعة

ورغم كل الجهود المبذولة من القطاع الصحي والمتطوعين لإكرام جثث الشهداء المجهولين، في ظل عدم وجود أي إمكانات حقيقية لذلك، ففي بعض الأحيان يُدفن عدد من الشهداء في كفن واحد. ويروي أبو عمار أنها تصل في حالات إلى دفن أسرة كاملة، ستة أو سبعة اشخاص في كفن واحد، يكونون عبارة عن جثة واحدة.

ويتابع: "كل مواقف الحرب صعبة، كلها متساوية، هذه المواقف لم نشهدها من قبل، مناظر الشهداء والحالات التي تأتي إلينا كلها صعبة جداً لا تستطيع النفس البشرية تحملها لولا أن ثبّتنا الله ما ثبتنا عليها".

"نحاول قدر الإمكان تجميع أعضاء الجسد في كفن واحد، ولكن لا نستطيع تغسيله أو حتى تكفينه، فنضع قطعة من البلاستيك لحماية الكفن من الدماء الناتجة عن التمزيق".  (Atia Darwish) (TRT Arabi)

ويسترسل أبو عمار حديثه عن صعوبة المشهد، لافتاً إلى أنهم يرون أناساً مقطعين كاللحم الذي يُؤكل، وأن كل تلك المشاهد تؤثر على العاملين في المغسلة، فبعد أن ينتهي عملهم ويعودوا للبيت أملاً في بعض الراحة، تعود بهم الذاكرة لتلك المشاهد وأحيانا تطاردهم تلك المناظر المفزعة في المنام.

TRT عربي
الأكثر تداولاً