تابعنا
في الوقت الذي كشفت فيه خسارة باريس لصفقة الغواصات المبرمة مع أستراليا ضعفاً دبلوماسيا للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كشفت أيضاً فشل المخابرات الفرنسية في الكشف عن الصفقة الجديدة قبل الإعلان عنها.

كان خبر انسحاب أستراليا من الصفقة المبرمة مع فرنسا منذ عام 2016 لاستيراد الغواصات الهجومية التقليدية بقيمة 90 مليار دولار هزة عنيفة للمؤسسات الفرنسية ومثَّل خسارة دبلوماسية وتجارية وعسكرية فادحة، تداعت لها كل مكونات المشهد السياسي.

واحتدت عقب ذلك التصريحات الرسمية التي اتهمت فيها باريس واشنطن بتسديد ضربة موجعة لها وباستبعادها بهذه الخطوة المفاجئة أحد أهم حلفائها التاريخيين. إذ إن انسحاب أستراليا من صفقة الغواصات جاء إثر الإعلان عن شراكة أمنية استراتيجية بين كانبيرا وواشنطن ولندن، في المحيطين الهندي والهادي تحت عنوان "أوكوس" لمواجهة الخطر الصيني، وتعهدت الولايات المتحدة ضمن الاتفاق بتحديث أسطول الغواصات الأسترالية بغواصات تعمل بالدفع النووي.

وفي الوقت الذي كانت توجه فيه أصابع الاتهام إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتضييعه الصفقة لضعفه السياسي والدبلوماسي الذي أفقد فرنسا احترامها بين حلفائها، يتساءل كثيرون في الأثناء عن دور الاستخبارات الفرنسية في ذلك، فلم تعرف مسبقاً بالاتفاق الجديد بين واشنطن وكانبيرا.

صفقة الغواصات.. ثغرة استخباراتية كبيرة

من اللافت في صفعة الغواصات الأخيرة التي تلقتها فرنسا انتظار واشنطن للدقيقة الأخيرة لتُعلم باريس بذلك. إذ إن سفير فرنسا في واشنطن فيليب إتيان أكد في وقت سابق أنه طلب بشكل طارئ مقابلة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في البيت الأبيض، وذلك قبل ساعات قليلة من الإعلان عن اتفاقية "أكوس" في مؤتمر صحفي. وجاء طلب إتيان لقاء سوليفان على خلفية بدء الصحافة الأمريكية والأسترالية تسريب الأخبار منذ بداية الأسبوع، عن إمكانية انسحاب كانبيرا من اتفاقية الغواصات الموقعة مع باريس.

وقد أوضح مصدر فرنسي في تصريح إعلامي في السياق ذاته أن باريس كانت تحاول عبر قنوات مختلفة الاتصال بالمسؤولين الأمريكيين الذين تنبهوا آنذاك إلى جدول الأعمال المكثف الذي خطط له البيت الأبيض في المحيطين الهندي والهادي، ولكن من دون جدوى. إلى أن جرت الموافقة على عقد لقاء بين أليس روفو نائبة رئيس الخلية الدبلوماسية في الإليزيه ونائب المستشار الرئيسي للأمن القومي جون فينير، وذلك في نفس يوم الإعلان عن "أوكوس".

ووقوفاً عند أهم هذه التفاصيل تساءل رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في مجلس الشيوخ الفرنسي كريستيان كامبو عن سبب فشل أجهزة الاستخبارات الفرنسية في أداء دورها بالخارج. وأكد أن لجنة الشؤون الخارجية والدفاع ستنظم سلسلة من جلسات الاستماع في هذا الصدد، مشدداً: "لدينا أسئلة حول كيفية عمل أجهزتنا في الخارج (الاستخبارات)".

وبدوره أشار الكاتب الصحفي الفرنسي فيليب لابرو إلى أن من المؤكد أن المفاوضات استمرت بين كل من أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا، على الأقل بضعة أشهر قبل التوصل إلى اتفاق نهائي، وعلى الرغم من أن هذه المفاوضات أجريت بشكل سري للغاية فإن أجهزة الاستخبارات الفرنسية فشلت في التفطن لأمر ما يحاك في الخلف قد يقوض مصالح باريس، وفي هذا مؤشر قوي على "إفلاس المخابرات الفرنسية وفشلها".

وبينما تكاد تتفق جميع الأطراف على وجود ثغرة استخباراتية كبيرة لدى باريس وعن تراجع دور أجهزة الاستخبارات الفرنسية أكد مصدر فرنسي في تصريح إعلامي لصحيفة لومند الفرنسية في السياق ذاته، أن هذا الملف يعتبر شديد الحساسية، وقد عولج لذلك في العواصم الثلاث بلجنة صغيرة جداً وبشكل رسمي. واعتبر المصدر أن الوصول إلى هذه المعلومات على حد تعبيره لا يعتبر تجسساً على الحلفاء، وإنما يعتبر ضمن المتعارف عليه في عمل جميع الأطراف فيما يتعلق بالقضايا الحساسة، على حد تعبيره.

تراجع دور الاستخبارات الفرنسية

على الرغم من أنها تعتبر صفعة قوية وضربة موجعة، فإن فشل أجهزة الاستخبارات الفرنسية في الكشف عن تفاصيل الاتفاق الجديد بين أستراليا والولايات المتحدة ليس الوحيد في سجل تراجع دور المخابرات الفرنسية خارجياً.

ومع أنه جرى تعزيز موارد الإدارة العامة للاستخبارات الخارجية التي عينت لاحقاً قائدة لعملية مكافحة الإرهاب خارج الحدود الفرنسية ضمن وزارة الجيوش، فإنها فشلت بالتصدي للجماعات المسلحة وتفكيكها والانتباه، في أغلب الأحيان، إلى شبكات نقل الأسلحة وتهريبها، وبخاصة في البلدان الإفريقية التي تمددت ونمت فيها الجماعات المسلحة بشكل كبير، وتواترت الانقلابات والاشتباكات فيها بشكل مستمر.

وقد كان الانقلاب في مالي على الرئيس أبو بكر كيتا مؤشراً هاماً إضافياً على تراجع النفوذ الفرنسي وانحسار دوره في إفريقيا، فالانقلاب فاجأ عناصر الاستخبارات الفرنسية المنتشرين هناك الذين لم يتوقعوا أن يحدث مثل هذا التغيير وكانوا يعتقدون أن الأمر سيتوقف عند المظاهرات والاحتجاجات السلمية فقط وأن حليفهم سيبقى على رأس السلطة.

وعلى صعيد آخر، بينما كان منوطاً بها التصدي لأي حملة أو هجمة أمنية إلكترونية، فشلت في الكشف مبكراً عن حقيقة ما إذا كانت أجهزة الاستخبارات المغربية تجسست على هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جانب مسؤولين آخرين، باستخدام تقنية بيغاسوس الإسرائيلية.

وتتعدد في الإطار ذاته مؤشرات الفشل والتراجع لقوة الاستخبارات الفرنسية في الفترة الأخيرة بعد أن كانت من بين أهم أجهزة الاستخبارات في العالم.

TRT عربي