تابعنا
إن الخلاف الذي تعيشه البلدان العربية اليوم من بذور الإرث الاستعماري وامتداد لمخططاته، الأمر الذي أدّى إلى تدمير الروابط المشتركة بينها وضرب اجماعها حول القضايا الكبرى.

اشتدّ الصراع والانقسام بين الأنظمة العربية فتغيرت خارطة التحالفات والمصالح، ليصبح بذلك أعداء الأمس أصدقاء اليوم

وفي هذا السياق يُعتبر إعلان التطبيع مع إسرائيل، وهو تطبيع من المحيط إلى الخليج، من المغرب غرباً إلى البحرين شرقاً، تعبيراً مأزوماً يعكس ما وصلت إليه الحالة العربية اليوم.

وكانت موجة التطبيع الأخيرة ضمن المقاربات التي تطرحها أمريكا للسلام في الشرق الأوسط، وتقدّم فيها إسرائيل حليفاً استراتيجياً وفق مبدأ "السلام مقابل السلام" بعيداً عن المقاربة السابقة "السلام مقابل الأرض". وقد جرت اتفاقيات التطبيع وفق المكاسب الضيقة لكل دولة على حدة، من بيع أسلحة متطورة كما في الحالة مع الإمارات، إلى الاعتراف بالصحراء الغربية كما الحالة مع المغرب.

وفي ظل غياب التنسيق على أرضية مشتركة بين الأشقاء العرب، ومزيد من التشظي على مستوى العلاقات الثنائية بين البلدان العربية، تراجعت مركزية القضية الفلسطينية وأصبح الصراع مختزلا وفق معاني الاقتصاد وتحسين الأحوال المعيشية للفلسطينيين في تجاهل تام لأصل الصراع المبني على أحقية الفلسطينيين لأرضهم التي تحتلها إسرائيل.

الإمارات عرَّابة التطبيع مع إسرائيل

فتحت دولة الإمارات الباب أمام التطبيع مع إسرائيل، ويُعتبر أول اتفاق تطبيع مع دولة خليجية وبوساطة أمريكية سُمي بالاتفاق التاريخي. قوبل ذلك بموجة غضب عربية وإسلامية واسعة.

ورحّبت البحرين بالقرار الذي أقدمت عليه الإمارات وثمّنته كخطوة ستسهم في تعزيز الاستقرار والسلم في المنطقة.

وجاء قرار التطبيع مع إسرائيل في وقت تعيش فيه منطقة الخليج العربي أزمة خلافات وانقسام وحصار لدولة قطر استمر لسنوات بناء على ادعاءات واهية تتعلق بدعم قطر لما يسمى "بالإرهاب" وعلاقتها مع إيران، بالرغم من أن علاقة الإمارات مع إيران من الناحية العملية أقوى من علاقة قطر بإيران وذلك نظراً لحجم الاستثمارات والتبادلات التجارية بينهما.

ورغم محاولات عديد من الأطراف العربية والأجنبية لتحقيق المصالحة بين الأشقاء الخليجيين خصوصا من قبل دولة الكويت، إلا أن كل المساعي تُوّجت بالفشل إلى الآن على أقل تقدير.

وقد رافق التطبيع الإماراتي مع إسرائيل الترويج لرواية أن التقارب مبني على حسابات استراتيجية تتعلق بتشكيل تحالف ضد النفوذ الإيراني في المنطقة الآخذ بالتمدد. وهي رواية يراها الكثير من الخبراء مجرد ادعاء لتبرير عملية التطبيع، ومحاولة إقناع الشعوب العربية بها.

وأشار برايان هوك المسؤول البارز في إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترمب، إلى أن اتفاقات التطبيع التي تم التوصل إليها أخيراً برعاية أمريكية تمثل "العمود الفقري لأي تحالف إقليمي يجمع إسرائيل وجيرانها العرب ضد إيران".

يرى الكثير من الخبراء أن الإمارات ومن خلال التقارب مع إسرائيل بهذا الشكل إنما تسعى جاهدة لاستعادة دورها الإقليمي حتى ولو كان على حساب الوحدة الخليجية والتضامن العربي، وذلك عبر ضمان موقعها في المنظومة الاقتصادية كمركز رئيس في التجارة العالمية، ورفع أسهمها في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية. كما أنها تحاول عبر التطبيع مع إسرائيل إلى تكوين حلف قوي للتأثير في القرارات الأمريكية في الشرق الأوسط.

إضافة إلى ذلك كشفت تقارير عن التعاون الإماراتي الإسرائيليالسري في مجال الأمن المعلوماتي والتحري الاستخباراتي والسعي إلى محاولة إجهاض التجارب الديمقراطية في أقطار عربية، والوصول إلى بيانات بعض الشخصيات السياسية.

ليكون بذلك تطبيع الإمارات مع إسرائيل شبكة من المصالح المتبادلة بين الدولتين، عكس ما يُروَّج من مبررات أدت إلى اتخاذ هذه الخطوة.

تطبيع السودان مع إسرائيل.. من المستفيد الأكبر؟

إن كان تطبيع الإمارات والبحرين مع إسرائيل ليس بالأمر المفاجئ نظراً إلى تاريخ التداول السري بين البلدين، فإن قرار السودان التطبيع مع إسرائيل كان قراراً صادماً للرأي العامّ العربي على ما يرى الكثير من المراقبين.

فالولايات المتحدة الأمريكية كانت قد قامت بإدراج السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ سنة 1993، ليعرف منذ استقلاله، كبلد مُعادٍ لإسرائيل، ولقد اشتهرت الخرطوم بأنها عاصمة اللاءات الثلاث: لا للاعتراف، لا للتفاوض، لا للتصالح. وعُرف السودان حديثاً بتقديم الدعم لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين، فتَعرَّض على أثرها للقصف مرتين سنة 2009 وسنة 2012.

لكن الفترة الانتقالية الحالية ألقت بظلالها على السودان من الناحية الاقتصادية خصوصا بعد ما عاناه السودان وعلى مدار السنوات العشر الأخير من تداعيات انفصال جنوبه وحرمانه من عائدات النفط.

وعلى إثر الاطاحة بالرئيس عمر البشير أصبح يتقاسم الحكم عسكريون ومدنيون ممثلون لقادة الحراك الاحتجاجي، إلى حين إجراء الانتخابات المقررة سنة 2022، وقد واجه هؤلاء معضلة اقتصادية خانقة ترافقت مع فترة انتقالية تشهد عسرا في الكثير من الاجراءات.

فمثلت الأزمة الداخلية للسودان، إضافة إلى الخلاف مع مصر وإثيوبيا حول قضية سد النهضة، فرصة مناسبة للولايات المتحدة الأمريكية لممارسة مزيد من الضغوط للدفع به إلى التطبيع مع إسرائيل ملوحة برفع اسم السودان من قائمة الارهاب. وهكذا تأكد لدى الكثيرون أن القضية الفلسطينية باتت قضية مطروحاً بشكل قوي في مزاد المساومات.

واعتبر وزير العدل السوداني نصر الدين عبد الباري أن "الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية لا تمنع إقامة علاقات مع إسرائيل"، وأن قرار التطبيع مع إسرائيل سيعود حتماً على السودانيين بمنافع كثيرة، وأكد أن السياسة الخارجية لا ينبغي أن تحدّدها اتجاهات آيديولوجية، فردية كانت أو حزبية، بل المصالح فقط، على حد تعبيره.

تزامن ذلك مع إعلان وزارة الخارجية الأمريكية رصد مساعدات مالية للسلطات السودانية.

ورغم الرفض الشعبي والتنديد بالقرار، والخلاف السياسي الحادّ، مضت الحكومة السودانية قُدُماً في ملف التطبيع مع إسرائيل مغلّبة المصلحة الخاصة على الاصطفاف وراء القضية الفلسطينية.

وفي تصريح له تلا إعلان قرار التطبيع، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن التقارب مع الخرطوم سيفتح منافع للإسرائيليين الذين يعبرون المحيط الأطلسي، وأضاف: "نحن الآن نطير غرباً، فوق السودان، وفقاً لاتفاقات عقدناها حتى قبل أن نعلن التطبيع، وفوق تشاد التي أقمنا معها أيضاً علاقات، إلى البرازيل وأمريكا الجنوبية".

التطبيع مع إسرائيل مقابل الصحراء الغربية: الخلاف المغربي الجزائري

غرباً،لم يتمكن كذلك المغرب والجزائر من تجاوز الخصومة بينهما التي استمرت لعقود، ويرجع أصلها إلى النزاع حول المناطق الحدودية، وقضية الصحراء الغربية.

ورغم المسارات الدبلوماسية والمفاوضات بين البلدين، ورغم الوساطة والتدخلات التي قامت بها جامعة الدول العربية، بقي ملف الصحراء الغربية ملفاً عالقاً بين الجارتين.

فالمغرب يعتبر الصحراء جزءاً من أراضيه، في حين تحاول جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر إنشاء جمهورية صحراوية مستقلة.

وفي خطوة مفاجئة يقوم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب بإعلان تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل، مقابل اعتراف أمريكي بالإقليم الصحراوي إقليماً مغربياً.

ورغم ما أكده الملك محمد السادس بأن القرار كان ضرورياً من أجل ترسيخ سيادة المغرب على الصحراء والحفاظ على وحدة التراب، وأن ذلك لن يكون على حساب نضالات الشعب الفلسطيني، فإن هذا القرار يمكن أن يكون ملغياً مع الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن، فالقرار الذي اتخذه ترمب هو وفق الإعلان الرئاسي وليس قراراً مصدقاً عليه من الكونغرس ليكون ملزماً لجميع الإدارات التالية. وفي حال تم التراجع عنه لاحقاً مع أي إدارة أمريكية أخرى تكون بذلك إسرائيل هي الفائز الوحيد في هذه الصفقة.

تستمر دائرة الدول العربية الموافقة على التطبيع مع إسرائيل في الاتساع، ويسوق كل طرف مبرراته ومسوغاته في اللجوء إلى هذا القرار وفق المصالح القطرية الضيقة، ولكنها تبقى خطوة تفتقر إلى الشرعية الشعبية.

وإن من أهم العوامل التي رمت بالأشقاء العرب في أحضان إسرائيل كانت الخلافات والصراعات بينهم، التي لم يتوصلوا إلى حلها حتى تعمقت واستعان بعضهم فيها بأطراف أجنبية.

هنا يتبادر إلى أذهان الكثيرين السؤال الملح والمتكرر.. أين دور جامعة الدول العربية في البحث عن حل لهذه النزاعات والسعي لمد جسور التواصل بين البلدان العربية؟ وأين تشديدها على أهمية القضية الفلسطينية كقضية مركزية وجامعة؟


TRT عربي
الأكثر تداولاً