تابعنا
يوم 13 أبريل/نيسان العام الماضي، تجاوزت حصيلة الوفيات بإيطاليا جراء فيروس كورونا 20 ألفاً. وفي عصر ذلك اليوم، حزم سعيد حقيبته بحرص. وضع فيها هاتفاً، وثلاثة بنوك طاقة (Power bank)، وحقيبة نوم، وصورة فوتوغرافية لطفليه في أفغانستان.

في أثناء الإغلاق في مارس/آذار، احتُجز سعيد قسرياً في مخيم ليبا للاجئين وطالبي اللجوء، في مقاطعة أونا سانا البوسنية، بجوار الحدود الكرواتية مباشرة. وبعد أن قطع كل هذه المسافة، كان جاهزاً للخطوة الأخيرة في رحلته إلى أوروبا.

في تلك الليلة، غادر سعيد المخيم، وفي طريقه إلى الحدود الكرواتية انضمّ إليه 9 رجالٍ آخرين.

يستخدم الأشخاص المتنقلون أنظمة تتبع GPS لعبور الحدود البرية بعيدًا عن الطرق الرئيسية والمواقع المأهولة. (Others)

واحدٌ وعشرون يوماً، سار فيها الجمع عبر الغابات والجبال في كرواتيا وسلوفينيا، ودخلوا إيطاليا. تجنبوا الطرق والبلدات، وحرصوا على أن لا يراهم أحد. لم يخلعوا أحذيتهم قط، ولا حتى في أثناء النوم، ليظلوا متأهبين للركض في لحظة إن عثرت عليهم الشرطة.

حين كانت الموجة الأولى من كوفيد-19 في أوجها، في ربيع عام 2020، شدّدَت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الإجراءات الأمنية الحدودية، فأرسلت الجيش لتنظيم دوريات على الحدود، وعطّلَت حرية الحركة ضمن إجراءات منع انتشار الفيروس.

وكان لهذا بالغ الأثر على الهجرة، وأعطى المهاجرين وطالبي اللجوء سبباً إضافياً للاختباء. عرف سعيد ورفاقه ذلك تمام المعرفة، لكنهم حين عبروا آخر الحدود ودخلوا إيطاليا ظنوا أن الأسوأ قد ولَّى.

بعض عمليات تتبع المعابر الحدودية غير النظامية يقوم بها السكان المحليون لتحذير قوات شرطة الحدود (Others)

في طريقهم المتعرج نزولاً من الجبال، توقف الجمع عند بلدة بانيولي الحدودية، ليكافئوا أنفسهم مكافأةً صغيرة: كوباً من القهوة السادة المحلّاة. على الناحية الأخرى من الطريق نظرت امرأة من نافذتها، ثم رفعت سماعة الهاتف... وبعد دقائق وصلت الشرطة إلى المكان.

أكدت الشرطة لاحقاً أن معظم المهاجرين تعترضهم السلطات على الحدود، بفضل مكالمات السكان المحليين.

تكدس الرجال في عربة الشرطة الإيطالية، التي سلّمَت سعيد ومعارفه للمسؤولين بسلوفينيا، ليرجعوا إلى الحدود الكرواتية البوسنية في أقل من 24 ساعة. لم تُتَّخذ أي احتياطات ضد انتشار كوفيد، ولم يُسمَع لأي مطالباتٍ باللجوء السياسي.

وحين توقفت العربة أخيراً، ألقت بالرجال في حقلٍ مفتوح بجوار ضفة نهر، وأمر ضباط بملابس مدنية يتحدثون الكرواتية الرجال بخلع ملابسهم.

انفتحت البثور في قدمِ سعيد وانخلع جلده حين انتزع حذاءه من قدمه. ضُرِب رجلان بعصيٍّ مجدولة، وجُلِد ثالثٌ بحبلٍ مربوطٍ بجذع شجرة. "عودوا إلى البوسنة" هي آخر جملة صاح بها الضباط الكرواتيون في أثناء صعود الرجال الضفة البوسنية من النهر.

وفي صباح السابع من مايو/أيار، سار سعيد حافي القدمين إلى المخيم البوسني، المخيم نفسه الذي غادره قبل ثلاثة أسابيع. وكانت هذه أول مرة يُصَدُّ فيها.

"اللعبة"

منذ بدء الجائحة، أبلغت وكالة الحدود الأوروبية فرونتكس بتراجع العدد الإجمالي لعمليات العبور غير النظامية للحدود إلى أوروبا. ويسري هذا على كل الطرق الرئيسية إلى أوروبا، ما عدا واحداً: الطريق البلقاني، الذي يسير فيه المهاجرون وطالبو اللجوء على أقدامهم، ليعبروا من تركيا إلى وسط أوروبا.

في العاشر من يوليو/تموز، بعد شهرين من صده للمرة الأولى عن دخول إيطاليا، جلس سعيد في ساحة ليبرتا، الساحة الرئيسية أمام محطة قطار تريستا.

ومعه جلس شباب من أفغانستان وباكستان وإريتريا والعراق وسوريا، على دكك الساحة، وكوّنوا مجموعاتٍ صغيرة تحت الشمس الغاربة. لنحو عامين، مثّلَت هذه الساحة ملتقى "المرتحلين" (المهاجرين وطالبي اللجوء الهاربين من الحرب والمجاعة والفقر في بلادهم)، الواصلين سيراً من تركيا عبر البلقان.

جلسوا انتظاراً لوصول مجموعة من المتطوعين، وزّعوا عليهم الطعام والدواء، وضمدوا البثور والكدمات بأقدامهم.

بيازا ليبرتا في تريست. في الساعة 6 مساءً من كل يوم ، يقدم المتطوعون والأطباء المساعدة الطبية للأشخاص الذين أنهوا للتو "اللعبة" - وهم يسيرون من المخيمات في البوسنة إلى إيطاليا. (Others)

يشرح سعيد: "منطقتان حدوديتان يصعب بشدة عبورهما ودخول أوروبا منهما".

الأولى نهر إفروس، الذي يفصل اليونان عن تركيا. إنه البديل الوحيد لمن يرغب في تجنب مخاطر العبور إلى الجزر اليونانية بقارب، تلك الجزر التي تزخر مؤخراً بالتقارير عن صد الشرطة اليونانية للعابرين وإعادتهم إلى تركيا.

ويُكمِل: "الثانية هي المنطقة الحدودية بين البوسنة وكرواتيا؛ الطريق بينهما، وإلى إيطاليا أو النمسا، نسميه (اللعبة)".

وأشار إلى الندوب على ذراعيه قائلاً: "لعبت اللعبة، ومنها حصلت على هذه الندوب".

اللعبة من البدائل القليلة للوصول إلى أوروبا دون عبور البحر المتوسط، لكن عبور البلقان رحلة لا تقلّ خطورة، "لعبة" تلعبها ضد قوات الشرطة في البلاد الواقعة على المسار، وتربح حين لا يُلقَى القبض عليك.

ومع تفشي الجائحة صارت اللعبة أصعب وأخطر. ووردت البلاغات من كثيرين عن الانتهاكات الجنسية والعنف من قوات الشرطة.

في كرواتيا أجبر ضباط الشرطة أناساً على التكوم بعضهم فوق بعض عراة، وباشروا بضربهم ورش علامات الصليب على رؤوسهم. وإمعاناً في إيذائهم، سرقت السلطات كل ممتلكاتهم، وحطمت هواتفهم أو ألقتها في المياه.

من أطراف كراتشي، يعيش سعيد مع طفليه وزوجته وأقاربه السبعة في غرفتين، "أخرج كل يوم لأبحث عن عملٍ، فلا أجد. ابنتي مريضة، وتركت البلاد لأنني أردت الإنفاق على عائلتي".

ورغم رغبته في الوصول إلى فرنسا، أُجبِرَ سعيد على طلب اللجوء في إيطاليا ليكسب وقتاً، ولكيلا يُلقَى القبض عليه ويرجع إلى البوسنة.

وبموجَب اللوائح الحاكمة لقانون اللاجئين حالياً، لن يُقبَل طلب سعيد اللجوء على الأرجح. فالفقر والحلم بمستقبل أفضل لا يُعترف بهما ضمن أسباب منح صفة اللاجئ في أوروبا. بدلاً من ذلك، ولإبقاء سعيد ومن يشبهونه خارج البلاد، اقترحت المفوضية الأوروبية في 2018 زيادة تمويل إنفاذ المراقبة الحدودية إلى ثلاثة أمثاله بين عامَي 2021 و2027، ليبلغ الاستثمار الكلي 38.4 مليار دولار.

ومع أنه كهربائي ماهر يبحث عن عمل، يجعل طلب اللجوء السياسي الذي قدمه سعيد إيجاد عملٍ قانوني في إيطاليةاأمراً مستحيلاً. ومن أجل البقاء، بدأ سعيد يعمل مرشداً للمهاجرين الآخرين، ومهرّباً صغيراً يستفيد مما تعلمه من خوض اللعبة.

الدروب الجبلية حول تريستا تزخر بأمارات الحياة؛ تتناثر حقائب النوم، والأحذية، والملابس، إذ تقرر المجموعات التوقف وقضاء الليلة، قبل الشوط الأخير من السير إلى محطة قطار تريستا.

"حين يصلون، سأكون نقطة الاتصال معهم. سأريهم من أين يحصلون على المساعدات، وكيفية شراء خط هاتف إيطالي، وسأعطيهم المال الذي أرسلته عائلاتهم إليَّ عبر ويسترن يونيون". توقف سعيد، ثم تابع: "أعرف بعضهم لأننا كنا في المخيمات نفسها في البوسنة. أحاول مساعدتهم لأنني أعرف الوضع، وفي المقابل أتقاضى رسوماً ضئيلة". تتراوح تلك الرسوم بين 5 و20 يورو (5.8-23.55 دولار أمريكي) للشخص الواحد.

وبطول المسار يوجد أشخاص مثل سعيد، يجنون القليل من المال من مسارات الهجرة غير النظامية، لكن ليس من السهل معرفة المهرّب حسن النية، وليس كل مهرب مثل سعيد. "من المهربين الآخرين من يجني أموالاً طائلة من السرقة أو استغلال غير المتمرسين".

العنف الحدودي ومخاوف العدوى

منذ بدء الجائحة صارت اللعبة أخطر، فللمهاجرين وطالبي اللجوء على طريق البلقان، أُضيف خطر التقاط العدوى إلى قائمة طويلة من المهالك.

يقول سعيد: "إن كانت الشرطة تبحث عنك، يصعب أن تقلق بشأن الإصابة بمرض فيروسي، فالأهم أن لا يُلقى القبض عليك وترجع من حيث أتيت".

وقواعد كوفيد-19 بشأن الهجرة أدّت إلى تهميش المهاجرين وطالبي اللجوء أكثر، فأقصتهم من إجراء المسحات مجاناً، وكذلك عطلت الإجراءات الوطنية لمنع انتشار كوفيد-19 بدرجة كبيرة حقوقهم في الرعاية الصحية وتجاهلتها.

يؤكد هذا لورنزو تامارو، ممثل النقابة المستقلة للشرطة في تريستا، واقفاً تحت أحد أقواس تريستا الممتدة، قال: "لقد زادت الجائحة الخطر عليهم (المهاجرين وطالبي اللجوء) وعلينا (الشرطة)".

طوال عام 2020 تَعيَّن على الشرطة الإيطالية التعامل مع مهمة صعبة، هي منع الدخول غير النظامي إلى البلاد، وفي الوقت نفسه أداء مهامّ استثنائية طوال شهرين من الإغلاق المطبق بصرامة.

وأكمل تامارو: "لقد كشفت الجائحة أزمة شاملة في السيطرة على الهجرة في أوروبا، هي أزمة شجبناها لأعوام". يشير تامارو هنا إلى أن الشرطة الإيطالية ينقصها الأعداد والموارد في مواجهة الهجرة غير النظامية، وبرز النقص مع إجراءات الإغلاق.

تامارو عريض المنكبين، يحمل صوته ثقة شخصٍ ليس بغريبٍ على المقابلات الصحفية. يُكمِل: "حين يدخل أجانب إلى أرضنا دون تصريح فهم يخالفون القانون، وتزداد جسامة المخالفة في أثناء الإغلاق الوطني. لسنا (الشرطة) جهة وضع القانون، لكن مهمتنا ضمان احترامه".

هذا الموضوع مترجم عن شبكة TRT WORLD التركية.

TRT عربي