تابعنا
يعاني مرضى السرطان من الأطفال في السودان بعد تسعة أشهُر من الحرب من خطر الموت في ظل انعدام الأدوية الضرورية للمرضى، وخروج المؤسسات الصحية عن الخدمة في ولايتَي الخرطوم والجزيرة.

بين ظروف النزوح القاسية والمعارك المستمرة في السودان تواجه عائلة الطفلة منة موسى (4 سنوات) صعوبات في الحصول على الجرعات العلاجية الكافية لطفلتهم المصابة بسرطان الدم (اللوكيميا)، التي كانت شُخصت بالمرض بعد أربعة أشهُر من بداية الحرب المندلعة في أبريل/نيسان 2023.

بدأت منة في تلقي العلاج بمستشفى الذرة (مستشفى ود مدني لعلاج الأورام)، وكانت أسرة الطفلة نزحت من الخرطوم إلى مدينة سنجة بعد اشتعال الحرب في الخرطوم، وعقب اندلاع الحرب في ولاية الجزيرة بدأت أسرة منة بجولة من مدني إلى المناقل، وكوستي، وربك، ثم امتدت الرحلة حتى القضارف التي ترقد فيها الطفلة الآن وتتلقى الرعاية في مستشفى الأطفال.

وتقول عائشة، وهي والدة الطفلة، إنّ الأطباء أخبروها بأنها تحتاج إلى جرعات لفترات طويلة، الشيء الذي لم يكن متاحاً في مدينة القضارف، إذ نصح الأطباء العائلة بالتوجه إلى مدينة مروي، ولكن الطريق ليس سهلاً.

وبصوت يشوبه الرضا تضيف عائشة لـTRT عربي: "الحمد لله أننا نقلنا الصفائح الدموية لمنة بعد تدهور حالتها، الطريق طويل إلى مروي ولا بد من استقرار حالتها الصحية قبيل بداية رحلة جديدة للحصول على الجرعات العلاجية".

تتخوف والدة منة من انتكاس حالتها في حال عدم حصولها على الجرعات المطلوبة، الأمر الذي سيُعيدها إلى نقطة البداية وأنها في حال لم تتلقَّ الجرعة الكيميائية لمدة شهر فستصل إلى مرحلة صعبة من التدهور الصحي.

البحث عن علاج وسط الحرب

ويعاني مرضى السرطان من الأطفال في السودان بعد تسعة أشهُر من الحرب من خطر الموت في ظل انعدام الأدوية الضرورية للمرضى، وخروج المؤسسات الصحية عن الخدمة في ولايتَي الخرطوم والجزيرة، ووسط غياب الإحصائيات الرسمية يُقدِّر أطباء وعاملون في المجال أن عدد الأطفال المصابين بمرض السرطان بلغ نحو 14 ألف حالة دخول جديدة سنوياً إلى المستشفيات.

ولم تكن حرب 15 أبريل/نيسان سوى البداية، إذ تتالت بعدها معاناة أطفال السرطان، وأدت الحرب الدائرة في الخرطوم إلى إغلاق المستشفى الكبير لعلاج الأورام في العاصمة، إضافةً إلى ندرة الأدوية والمسكنات والعلاج الكيميائي.

وتقول الإحصائيات إنّ مستشفى الذرة (مستشفى الخرطوم لعلاج الأورام) كان يقدم الخدمات التشخيصية والعلاجية لنحو 8 آلاف حالة جديدة سنوياً، إضافة الى حالات المتابعة الدورية، حسبما يقول المستشفى على صفحته على فيسبوك. وبعد توقف المستشفى توقف الأطفال المصابون بسرطان الدم عن تلقي العلاج منذ أكثر من شهر.

وحذرت نقابة أطباء السودان في بيانها الصادر بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول الماضي من أن جميع المرافق الصحية بمدينة ود مدني أصبحت خارج الخدمة جراء الصراع الدائر في ولاية الجزيرة بين الدعم السريع والجيش السوداني، إذ توقف أكثر من 22 مستشفى ومركزاً علاجياً حكومياً عن تقديم خدمة العلاج.

وتطمح والدة الطفلة منة إلى الحصول على جرعة أو جرعتين من العلاج الكيميائي في مدينة القضارف قبيل بدء رحلة جديدة هدفها البحث عن علاج لطفلتها، وتقول: "منة ليست وحدها التي تعاني، إذ إن كثيراً من الأطفال مثلها يبحثون عن فرص للعلاج في ظل الوضع الحالي، وبعض الأسر يتواصلون معنا للحصول على خريطة الطريق التي تختصر عليهم الوقت والمعاناة للوصول إلى المكان الذي سيجد فيه الأطفال المرضى فرص العلاج".

وتضيف بأنها لاحظت تحسناً في صحة طفلتها بعد تلقي الجرعة الأولى من العلاج، والآن بعد حدوث الاشتباكات المسلحة في ولاية الجزيرة فقدت منة شهيتها للأكل، الأمر الذي اضطرهم إلى تركيب (أنبوبة معدة) لتغذيتها، قائلة: "أتمنى لو بإمكاننا أن نفعل أي شيء يساعد طفلتي في استعادة صحتها".

جهود بددتها الحرب

قبل الحرب كان عدد من المنظمات الخيرية والأجسام التطوعية يقدم خدمات الرعاية للأطفال مرضى السرطان وأسرهم، من هذه المنظمات التي قدمت الخدمات الكثيرة منظمة "كلّنا قِيم"، التي كانت تقيم استراحات "جوّانا أمل" للأطفال مرضى السرطان، عبر استراحتَي الخرطوم وود مدني.

ويقول محمد العقيد مدير استراحة "جوّانا أمل" بود مدني لـTRT عربي إن "جوّانا أمل" قدمت عدداً من الخدمات، من سكنٍ مُهيَّأ للطفل المريض وأسرته وخدمات نقل المرضى من الاستراحة إلى المستشفى لتلقي العلاج، والتغذية العلاجية والدعم والتأهيل النفسي، يُضاف إلى ذلك التشخيص والتحاليل الطبية وتكلفة العلاج المصاحب.

استراحة "جوّانا أمل" التابعة لمنظمة "كلنا قيم" التي كانت تقيم الاستراحات للأطفال مرضى السرطان، عبر استراحتَي الخرطوم وود مدني (صفحة المنظمة على فيسبوك) (Others)

ووفق منظمة "كلّنا قِيم" فإنه بعد اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم، وخروج مستشفى "الأمل" عن الخدمة، أجْلَت المنظمة الأطفال إلى استراحة "جوّانا أمل" بمدينة ود مدني، وعند انتقال الصراع إلى مدينة ود مدني أجلى العاملون في المنظمة الأطفال إلى مكان آمن، حسب محمد العقيد.

كما يواجه العاملون في منظمة "كلّنا قيم" تحديات جمة، أبرزها توفير جرعات العلاج الكيماوي، وإتاحة مستشفيات تقدم الرعاية الطبية للأطفال المرضى، عطفاً على عدم المقدرة على تشخيص حالات جديدة بسبب خروج المعامل الرئيسية للتشخيص عن الخدمة.

بلغت خسارة استراحات "جوّانا أمل" ما يزيد على 800 ألف دولار، إضافة إلى المصير المجهول الذي يواجه استراحات الخرطوم وود مدني، إذ يعتبر العاملون فيها أنها في عداد المفقودات، فضلاً عن عربات الإسعاف التي فُقدت والمولدات التي إنْ لم تكن في عداد المفقودات فإن الخراب قد طالها.

أجلى العاملون في منظمة "كلّنا قيم" ما يزيد على 55 طفلاً كانوا عالقين بمستشفى "الأمل"، ويقول محمد العقيد إنه "حين بدأت الحرب في ولاية الجزيرة أجْلَوا 28 طفلاً في رحلة استمرت 12 ساعة، كان يبكي خلالها الأطفال عندما كانوا يرون دموع أمهاتهم".

يستقبل العاملون في "كلّنا قيم" مئات المكالمات يومياً من أولياء أمور المرضى بحثاً عن أمل في معاودة العلاج وهلعاً من المصير المجهول، كل هذا يضاف إلى مديونيات والتزامات شهرية تفوق أربعة ملايين جنيه سوداني (6655 دولاراً) للصيدليات والمعامل التي يتعاملون معها.

مَن لم يمُت بالرصاص مات بغيره

كان توقيت امتداد الاشتباكات إلى ولاية الجزيرة هو اللحظة التي فقدَ فيها أطفال السرطان أكبر مستشفيين لعلاج الأورام، إذ أغلق الأول في الخرطوم عقب اندلاع الحرب هناك، مما اضطر أُسَر الأطفال المصابين بالسرطان إلى النزوح إلى الولايات المجاورة لتأمين أطفالهم من الرصاص الطائش الذي يأخذ في طريقه كل شيء، الأمر الذي جعل معظم الأُسَر تبحث عن الأمان لأطفالها أولاً، ثم تبدأ رحلة جديد من البحث عن الرعاية الصحية للأطفال المصابين بالسرطان.

ويقول الدكتور محمد عوض، نائب إخصائي الأطفال في مستشفى الذرة بود مدني، إن في السودان مركزين لتقديم علاج السرطان، أحدهما مركز الخرطوم والآخر مركز ود مدني، وبعد اندلاع الحرب في الخرطوم اتجه المرضى إلى مدينة ود مدني حيث المركز الآخر لتقديم الرعاية الصحية.

يخضع مريض السرطان لمقابلة الاختصاصي في البداية لتأكيد تشخيص الحالة، ثم يُنشئ المستشفى ملفاً للمريض لمتابعة حالته مع الأطباء في مستشفى الذرة، ثم بعد تشخيص الحالة يحدد الاختصاصي بروتوكول العلاج وفقاً لنوع السرطان، لتبدأ مرحلة العلاج الأولى منها بنقل الصفائح، وإعطاء المضادات الحيوية لعلاج المضاعفات التي يعاني منها المريض، ثم تبدأ بعدها مرحلة جديدة من العلاج وهي بداية العلاج الكيمائي في صالات مخصصة لعلاج المرضى تحت إشراف ممرضين متخصصين ومدربين بمهارات عالية، مع ضرورة وجود طبيب مناوب في صالة العلاج الكيمائي لتفادي حدوث مضاعفات، مع مراقبة أسبوعية للمرضى.

وحسب دكتور محمد عوض -وهو المسؤول عن تقديم الخدمات العلاجية لأطفال السرطان بولاية الجزيرة- فإنه قُبيل امتداد رقعة الحرب إلى ولاية الجزيرة كان أطباء السرطان يواجهون مصاعب عديدة، منها عدم توفر الصفائح الدموية تحديداً للمرضى الذين يحملون فصيلة دم O-ve، بالإضافة إلى إغلاق بنك الدم في مستشفى الذرة عند التاسعة مساءً، ما يصعب على الأطباء التعامل مع الحالات في حالة حدوث نزيف لأحد المرضى، الأمر الذي يجعل من الصعب نقل زجاجات دم أو صفائح دموية إلى المريض، هذا يضاف إلى الأزمات المالية التي يعاني منها ذوو الأطفال، نسبة إلى كثرة ترددهم على المستشفيات بصورة مستمرة، منها عدم توفر العلاج الكيميائي.

بعد خروج مستشفيات الخرطوم ومدني عن الخدمة تنقَّل المرضى في بقية ولايات السودان المختلفة، منها كسلا القضارف، وبورتسودان، وكوستي ومروي، مما جعل الأطباء يلجؤون إلى عمل مجموعات على تطبيق واتس آب مع الولايات نسبة إلى غياب المستشفيات المتخصصة في علاج سرطان الأطفال لتسهيل عملية العلاج، وفي آخر تواصل لهم مع مستشفى مروي جرى الإعلان عن بدء تأسيس مركز مخصص لعلاج الأطفال المصابين بالسرطان.

ويقول دكتور محمد عوض لـTRT عربي إن نوع العلاج الذي يحتاج إليه الطفل المصاب بالسرطان يحدَّد وفقاً لنوع المرض الذي يعاني منه الطفل، بالإضافة إلى تناول أقراص (الكورتيزون) بصورة مستمرة لتثبيط المناعة.

في هذه الأثناء يعاني المرضى من عدم توفر الأدوية التي إنْ وُجدت فهي مرتفعة الأسعار، وليس في استطاعة معظم الأسر الحصول عليها.

جرعات علاج لمرض السرطان في أحد المراكز الطبية في مدينة أم درمان بالسودان (TRT Arabi)

يوجد عدد من المخاطر يحيق بأطفال السرطان بعد خروج مستشفى ود مدني عن الخدمة، منها توقف المرضى عن تلقى العلاج، الأمر الذي يؤدي إلى تدهور حالتهم الصحية، وأيضاً ظهور بعض المضاعفات على المرضى كالأنيميا ونقصان الصفائح الدموية في ظل غياب المؤسسات التي تقدم الرعاية الصحية للأطفال المصابين بمرض السرطان.

ويضيف الدكتور محمد عوض الذي فقدَ عشرة من الأطفال الذين يتلقون العلاج معه بسبب المضاعفات التي حدثت لهم نتيجة توقفهم عن تلقي العلاج: "في ظل غياب واضح للأدوية الضرورية، وإنْ وجدت، فإنه من الصعب الحصول على أطباء مدربين لتقديم الخدمة".

TRT عربي