تابعنا
بعد الانسداد السياسي الذي حاصر خيارات نتنياهو، وفي ظلّ مسيرة الفشل السياسي التي يعاني منها في تشكيل الحكومة الإسرائيلية..

و على الرغم من كل الأوراق التي منحها له الرئيس الأمريكي السابق دوناند ترمب قبل أن يغادر البيت الأبيض، من اعتراف بضمّ الجولان السوري ثم اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، ورغم حملة التطبيع من بعض الدول العربية... لم تكن كل هذه الأوراق كافية لتأمين العبور السياسي المريح لنتنياهو نحو ولاية جديدة.

الأمر الذي دفع نتنياهو إلى تصدير أزمته إلى الخارج والبحث عن ساحة مناسبة لتفجير صراع يعرض فيه نتنياهو عضلاته العسكرية ويحشد المجتمع الإسرائيلي من ورائه لتعزيز شعبيته المتآكلة، وهنا لم تكن الجبهة الشمالية مع حزب الله خياراً مناسباً، ولا إشعال الحرب مع إيران هو الآخر خياراً أفضل، لذلك اختار المعركة الأسهل والأضعف حسب اعتقاده واتجه هذه المرة إلى الاعتداء على الحقّ الفلسطيني، بتوسيع المستوطنات وقضم الأراضي ومصادرة منازل 28 عائلة في حي الشيخ جراح والاعتداء على المقدسات الإسلامية في المسجد الأقصى، لدرجة أن تحولت هذه الجرائم إلى البرنامج الانتخابي المعتاد لنتنياهو لكسب ثقة الناخب الإسرائيلي وجذب أصوات اليمين المتطرف.

لم يكن نتنياهو يعتقد أن القدس كلها ستنتفض في وجهه، وكان يعتقد أنه سيحسم معركة الشيخ جراح بسهولة، لكنه فوجئ بخطأ حساباته عندما انتفض الشباب المقدسي نصرة للشيخ جراح، وبدلاً أن يتراجع عن تهوره دفعه الغرور والخوف على مستقبله السياسي إلى انتهاج سلوك القمع والاعتداء على المسجد الأقصى، لكن ما حصل هو توسُّع بقعة الزيت واتساع رقعة الاحتجاجات ودخول المقاومة الفلسطينية على الخط لتنذر نتنياهو إن لم يتراجع عن الاعتداء على المسجد الأقصى فستردّ، ويأتي الردّ لا كالمعتاد، وتطلق المقاومة عملية سيف القدس وتبدأ الصواريخ المتطورة بدكّ تل أبيب لأول مرة.

لم يرتدع نتنياهو وقرر التصعيد ضد غزة، وأعلن أن هدفه هو اجتثاث المقاومة إلى الأبد، لكنه سرعان ما رفض السقف ليعلن أن هدفه هو منع صواريخ المقاومة أن تنطلق من غزة إلى المدن الإسرائيلية، ثم ينتهي بالكلام عن تدمير منازل قادة المقاومة الفارغة وتدمير الأنفاق، ويفرغ حقده بقتل 232 شهيداً بينهم 65 طفلاً و39 سيدة و 17 مسنّاً، إضافة إلى 1900 مصاب.

لم يخطر ببال نتنياهو أن تمتدّ كرة النار، وظنّ أن المواجهة هي مع الشباب المقدسيين، لتنتقل الاحتجاجات إلى مدن الضفة الغربية وإلى داخل الخط الأخضر، ليجد نتنياهو نفسه بعد عشرة أيام من حربه الإجرامية يغرق في المستنقع، ولا بد من مخرج.

ليأتي الإعلان عن وقف غير مشروط لإطلاق النار يبدأ الساعة الثانية من ليلة الجمعة، بعد أن كان نتنياهو مصرّاً على أن تبدأ المقاومة وقف إطلاق النار من جهتها أولا.

فهل انتصرت المقاومة وهُزم نتنياهو؟

في تصريح خاص لـTRT عربي تَحدَّث أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية عصام عبد الشافي عن انتصار المقاومة، وذكر عدداً من الأسباب التي تؤكّد انتصار المقاومة وهزيمة نتنياهو، من بينها "أن صفقة القرن التي عملت إدارة ترامب على ترسيخها ذهبت أدراج الرياح، كما أن هذه الجولة من الصراع شهدت نقل المعركة إلى العمق الإسرائيلي، والإضرار الكبير ليس فقط بالبنية التحتية للكيان، ولكن -وهو الأهمّ- بالحالة النفسية للمستوطنين، لدرجة تحكُّم قائد كتائب المقاومة في مواعيد دخولهم وخروجهم من الملاجئ".

وتحدث عبد الشافي عن التطور النوعي في سلاح المقاومة، بخاصة مع الكشف عن صواريخ يصل مداها إلى 250 كلم، رغم ما ترتب على هذا التطور من استهداف المطارات الأساسية للكيان، ووقف حركة الطيران فيها، وتداعيات ذلك أمنياً واقتصادياً وسياسياً على الكيان الإسرائيلي.

ولفت عبد الشافي الانتباه إلى "الانتصار الإعلامي للمقاومة بعد التحول النسبي في الرأي العامّ العالمي لصالح القضية الفلسطينية، بخاصة بعد سقوط عشرات الشهداء من الأطفال، ومشاهدة جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على الهواء مباشرة، وتدمير أحد الأبراج التي تضمّ شبكات إخبارية ومحطات فضائية عالمية، وهو ما جدّد الوعي العربي والإسلامي، بل والإنساني، بمحورية ومركزية القضية الفلسطينية".

بدوره قال الباحث سعيد الحاج في تصريح خاص لـTRT عربي، إن "الحديث هنا عن انتصار مرحلي يتعلق بهذه الجولة من التصعيد وتحديد الانتصار والهزيمة في هذه الحالة يتعلق بالأهداف المفترَضة لكل طرف من الطرفين، ويرتبط بتأثير ذلك على مسار الصراع بالكلية".

في ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي قال سعيد إن "هزيمته لا تتعلق بالتنازل عن أهدافه السابقة المتعلقة بنزع سلاح المقاومة أو قتل كل قادتها التي لم يعُد يتحدث عنها وبدأ يتحدث عن أهداف أقلّ من ذلك بقليل مثل اعتراض معظم الصواريخ أو اغتيال بعض الشخصيات هنا أو هناك، لكن رغم ذلك لم يحّقق هذه الأهداف أيضاً، فرأينا قتل الأطفال واستهداف المراكز الإعلامية، ولم يستطع استهداف قادة المقاومة، وهو ما يعكس فشلاً استخباراتياً وعدم امتلاك بنك أهداف وفشلاً عسكرياً في الميدان انعكس إلى فشل سياسي بالضغوط الداخلية والخارجية التي تعرضت لها حكومة نتنياهو لفشلها في هذه المعركة وارتكاب جرائم الحرب في هذه المواجهة، إضافةً إلى انتفاضة الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر التي أربكت حسابات الكيان الصهيوني".

أما عن النقاط التي كسبتها المقاومة فقال سعيد: "كانت المقاومة هي المبادِرة في هذه المواجهة وربط المقاومة المسلحة بالدفاع عن القدس وحي الشيخ جراح، ووحدة الموقف الفلسطيني خلف المقاومة، والالتفاف حول المقاومة كأنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وتحقيق الردع باستهداف تل أبيب مقابل استهداف الجيش الإسرائيلي المدنيين. في المشهد النهائي كان العدوّ الصهيوني يبحث عن مخرج بعد أن دبّ الخلاف بين الجيش والحكومة الإسرائيلية".

يبدو أن الشعب الفلسطيني المتماسك في الضفة وقطاع غزة وداخل الخط الأخضر ومن ورائه فصائل المقاومة فرض معادلة جديدة على الصراع، وهو ما سيكون له انعكاساته في المستقبل، فقد استطاعت المقاومة فرض معادلة ردع جديدة ضد أي ممارسات إسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وكذلك حطمت الوهم الأمني لإسرائيل بعد فشل القبة الحديدية التي أنفق عليها مليارات الدولارات بالتصدي لصواريخ المقاومة، وجعلت كل أوراق نتنياهو بالتطبيع أوراقاً بلا قيمة، وقد لا تنتهي هزائم نتنياهو عند حدّ تَسوُّل وقف إطلاق النار، بل قد ينتهي كل مستقبله السياسي بعد فشله العسكري والسياسي والإعلامي في إدارة الصراع مع المقاومة، وانتظار ملفّ ضاغط هو ملفّ الجنود الإسرائيليين الأربعة الذين وقعوا في الأسر، إذ سيكون ملفّهم ورقة تفاوضية قوية بيد المقاومة التي ستدفع نتنياهو إلى تقديم مزيد من التنازلات لإطلاق سراحهم.

TRT عربي