تابعنا
شهدت منطقة الساحل في السنوات الأخيرة صراعاً جيوستراتيتجياً محتدماً قطباه روسيا وفرنسا، إذ عاشت باريس تراجع نفوذها التقليدي في مالي وبوركينا فاسو وغيرهما، في حين تمدد وجود مجموعة فاغنر الروسية من إفريقيا الوسطى إلى قلب منطقة الساحل.

مرة أخرى تشهد القارة الافريقية انقلاباً عسكرياً جديداً على رئيس منتخب، بعد أن أقصى العسكريون خلال السنوات الماضية الرؤساء في مالي وبوركينافاسو وغيرهما من الدول من منطقة الساحل.

ومع هذا التحرك لعسكر النيجر يكتمل حزام الانقلابات الإفريقي ممتداً من شرق القارة في السودان انتهاء بغربها في مالي، طارحاً عديداً من التساؤلات حول مدى العوامل الداخلية والخارجية التي رسمت المشهد في العاصمة نيامي، ومحاولاً استجلاء صورة الارتدادات الإقليمية والسياسات المتوقعة من حكام النيجر الجدد.

روسيا وفرنسا.. مرة أخرى؟

شهدت منطقة الساحل في السنوات الأخيرة صراعاً جيوستراتيتجياً محتدماً قطباه روسيا وفرنسا، إذ عاشت باريس تراجع نفوذها التقليدي في مالي وبوركينا فاسو وغيرهما، في حين تمدد وجود مجموعة فاغنر الروسية من إفريقيا الوسطى إلى قلب منطقة الساحل.

وبالنظر إلى ما سبق كان التساؤل، لدى الخبراء والمراقبين، حول مدى ارتباط الحركة الانقلابية في النيجر بسياق التنافس السياسي بين القوى الكبرى على المنطقة، حاضراً منذ توارد الأنباء من العاصمة نيامي صباح يوم الانقلاب، حيث يرى محمد ويس المهري أنه "بالطبع يمكن أن يكون لهذا الانقلاب صلة وطيدة بالصراع بين المعسكرَين الشرقي متمثلاً في روسيا والصين والغربي متمثلاً في الولايات المتحدة وفرنسا".

ويضيف المهري الصحفي المختص في شؤون منطقة الساحل في حديثه مع TRT عربي أن النيجر إحدى الدول المهمة للولايات المتحدة، إذ "أرسلت واشنطن إلى نيامي مؤخراً عدة مسؤولين أمريكيين منهم نائبة الرئيس ووزير الدفاع".

ووفقاً للمهري فإن بعض الأوساط المقربة من الرئيس محمد بازوم تحدثت عن أنه انتهج في الفترة الأخيرة "سياسة متوازنة بعيدة عن هذا الاستقطاب بين المعسكرين الشرقي والغربي، وأنه مفاوضاتٍ جرت أيضاً لدخول شركات صينية إلى السوق النيجرية، وخاصة في مجال اليورانيوم، وهو يعتبر خطاً أحمر لأن الشركات الفرنسية هي التي تهيمن على هذا المجال".

هذه الخطوة قد تكون لها تداعياتها كما يرى المهري في إفادته لـTRT عربي، مستطرداً أن من الملاحظ أن فرنسا لم تصرح بإدانة قوية مثلما فعلت مع انقلابَي مالي وبوركينافاسو، و"قد يكون ذلك متعلقاً بالتفاهمات مع الرئيس النيجري السابق محمد إسوفو" الذي يُعتقَد أنه متورط في هذا الانقلاب، و"الذي يعد صاحب علاقة وثيقة جداً مع فرنسا" حسبما يقول المهري.

في المقابل يذهب بعض المراقبين إلى أن ما يحدث في النيجر لا يعدو أن يكون صراعاً داخل البيت الواحد الحليف لفرنسا، وأن ربط الانقلاب بالصراع بين موسكو وباريس في المنطقة "وحي خيال".

ووفقاً لهذا التحليل فإن النيجر لن تخرج من عباءة باريس التي تملك 4 قواعد عسكرية فيها، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى تملك قاعدة عسكرية، في حين تعتبر النيجر مركز قوات الناتو في الساحل وبالتالي فإنهم "لن يفرطوا فيها"، حسبما يرى عديد من المراقبين.

صراع داخل البيت النيجري

التفاعلات الداخلية لم تكن بعيدة عن صناعة مشهد الانقلاب في النيجر، إذ يذهب الصحفي محمد ويس المهري إلى أن "داخل الحزب النيجري الحاكم صراعاً من أجل الديمقراطية والاشتراكية يجري بين الرئيس السابق محمدو إسوفو والرئيس المعزول محمد بازوم".

ووفقاً للمهري فإن إسوفو كان يرتب للعودة إلى الرئاسة من جديد "ولذلك زكّى بازوم ودعمه ليفوز بالانتخابات عام 2021، في خطوة تبادل أدوار بين الرجلين، ولكن يبدو أن الأخير لم يعد يلتزم ذلك الخط".

ويمضي المهري موضحاً لـTRT عربي أن الخلاف ظهر في عدة ملفات مهمة، ومحاولة بازوم تخفيف هيمنة إسوفو على المشهد في البلاد "من خلال إقالة رئيس الحرس الرئاسي والمجموعة التابعة له الموالية للرئيس السابق، فاستبقت هذه المجموعة تحرك بازوم وعزلته واحتجزته".

وتذهب بعض الدراسات للإشارة إلى أن الصراع العرقي لوضع اليد على أجهزة الدولة لا يمكن استبعاده من دائرة العوامل الداخلية في المشهد الانقلابي.

إذ إن بازوم ينتمي إلى قبيلة أولاد سليمان العربية التي تعد من الأقليات لكنها نافذة بسبب الثروة والحضور في الشأن العام، في حين أن إسوفو ينتمي إلى عرقية الهوسا ذات الأكثرية في البلاد، ونتيجة التفاهمات بين الرجلين أوصلت أصوات أبناء الهوسا بازوم إلى منصب الرئاسة، وبالتالي يوجد مزاج عام أنه "ينبغي أن تظل أغلب المنافع وأهم الوظائف بين أيديهم".

ومحاولة بازوم تعيين عناصر من عرقيات عربية وغيرها في مناصب حساسة بدا وكأنه "يقصي عرقية الهوسا".

آثار هذه الحساسية العرقية تظهر في أن أعضاء المجلس العسكري الذي أطاح ببازوم كلهم من عرقية الهوسا، وهو ما يؤشر إلى محاولة إعادة مسار السلطة إلى ما يخدم مصلحة هذه المجموعة العرقية.

الارتدادات والسياسات المتوقعة

بعد قرابة يومين من وقوع الانقلاب ما يزال الغموض يلف التكهنات حول السياسات والارتدادات المتوقعة نتيجة الحدث النيجري.

ويذهب محمد ويس المهري إلى أن رؤوس السلطة الانقلابية هم من الضباط المعروفين بولائهم لفرنسا، وبالتالي فإنه من المتوقع "استمرارهم على نفس السياسة" المحابية لباريس.

لكن إن حاولت فرنسا أو الولايات المتحدة الضغط على الانقلابيين، وفقاً للصحفي المتخصص في شؤون منطقة الساحل، فإن هذا سيشكل دافعاً لهم للتوجه نحو روسيا والصين، وهو ما سيشكل "كارثة لباريس وواشنطن".

من جانبه يرجح الدكتور محمد خليفة الصديق استمرار الانقلابيين "في ولائهم لفرنسا"، لأن الانتقال إلى المربع الروسي الآن "ليس سهلاً، فالدول التي فعلت ذلك من قبل لم تشهد تغييرات كبيرة في أوضاعها" حسبما يقول دكتور الصديق.

الحدث النيجري هام في ارتداداته الإقليمية كما يقول الصديق أستاذ العلوم السياسية في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم، مضيفاً لـTRT عربي أنه بالنظر إلى السودان على سبيل المثال فإن علاقة وطيدة ربطت الرئيس النيجري المخلوع محمد بازوم ومحمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع الذي ساهم في وصوله إلى الحكم بتقديم "دعم مختلف الأنواع"، كما شارك حميدتي في حفل تنصيب بازوم، وأُعجب به بصفته "أول رئيس عربي يصل إلى الحكم في النيجر".

ووفقاً للصديق فإن من المحتمل أن انشغال الدعم السريع في السودان عجل بتحرك الضباط الانقلابيين "ومسارعتهم بإزاحة محمد بازوم عن الحكم" وأشار إلى أنه "لو بقيت قوات الدعم السريع محافظة على قوتها الكبيرة ما كان يستطيع الانقلابيون في النيجر أن يفعلوا هذا الأمر". الحسابات الآن قد تتغير كما يرى الصديق، لأن إغلاق الانقلابيين الحدود "سيمنع وصول الإمدادات البشرية واللوجستية التي كان يتوقع الدعم السريع وصولها من النيجر ومالي، وهو ما سيؤثر على ما يسمى مشروع القبائل العربية "في المنطقة كلها بما فيها السودان وتشاد".

ويذهب الدكتور الصديق إلى أن من المتوقع أن يحاول الانقلابيون تخفيف الضغوط التي ستمارس عليهم قارياً وإقليمياً من خلال التلويح "بورقة تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة، لتجنب تعليق العضوية من الاتحاد الإفريقي أو من منظمة الإيكواس التي تضم دول غرب إفريقيا"، كما سيترافق ذلك مع تجنب استعداء الدول القوية في المنطقة كنيجيريا، "بما يضمن استمراريتهم في سدة السلطة في النيجر".

TRT عربي