لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة الأفغان ومَن تابعوا مشاهد سقوط كابول مشاهد اختراق الحشود المذعورة لبوابات مطار كابول، وتسلّقهم أجنحة الطائرات الأمريكية المغادرة المطار قبل عامين.
حدث ذلك في أغسطس/آب 2021 عندما كانت حركة طالبان قد اجتاحت كابول مع انسحاب القوات الأمريكية بعد احتلال دام عشرين عاماً.
عمليات الإجلاء
مع سقوط الحكومة والجيش الأفغانيين بين أيدي حركة طالبان أجْلَت الولايات المتحدة آلاف الأشخاص عبر المطار الرئيسي في كابول. وأعطت عملية الإجلاء، التي جرَت على متن طائرات شحن عسكرية، الأولوية للمواطنين الأمريكيين والمقيمين الدائمين في الولايات المتحدة وحاملي التأشيرات الخاصة، والصحفيين، والمترجمين الذين ساعدوا القوات الأمريكية، وناشطين في مجال حقوق المرأة، والأقليات الدينية، وغيرهم ممن اعتُبروا معرَّضين بشكل خاص لانتقام طالبان أو حكمهم القاسي.
كان بين الأشخاص الذين جرى إجلاؤهم في المراحل الأولية 124 ألف مدنيّ، من بينهم نحو 6 آلاف مواطن أمريكي. وقد نُقل بعض الأفغان من هذه الرحلات مؤقتاً إلى ثماني دول وافقت على استقبالهم حتى وصلوا في النهاية إلى الولايات المتحدة لاجئين، وجرت إعادة توطين بعضهم في مكان آخر.
من جانبها استقبلت الولايات المتحدة أكثر من 70 ألف أفغاني جرى إدماجهم في نهاية المطاف في جميع أنحاء الولايات المتحدة بمساعدة المنظمات الخاصة، بعد مكوثهم لأشهُر في قواعد عسكرية.
الإفراج المشروط
بعد وصول الأفغان إلى الولايات المتحدة في إطار عملية "الترحيب بالحلفاء"، جرى قبول نحو 95% منهم بموجب عملية تسميها الحكومة الإفراج الإنساني المشروط. وهو وضع قانوني مؤقت يسمح لهم بالبقاء في البلاد لمدة عامين فقط.
تسمح فترة السماح لعامين للأشخاص بالعمل والحصول على بعض الدعم الحكومي، لكنها لا تضمن لهم الطريق للإقامة الدائمة القانونية والمواطنة في نهاية المطاف.
وبدلاً من ذلك يتعين على الأفغان الذين جرى إجلاؤهم التقدم بطلب للحصول على الحماية الدائمة من خلال نظام اللجوء الأمريكي أو مسارات قانونية أخرى طويلة ومعقدة.
العمل بـ"الإفراج المشروط" ليس حديثاً، فقد بدأ الأمر في أعقاب الثورة المجرية ضد الشيوعية عام 1956. ومع توغل الدبابات السوفييتية لإخماد التمرد المجري وقتل كثيرين غادر المجرَ 200 ألف شخص، وكانت هذه أكبر حالة طوارئ للاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وقد عبَر الـ200 ألف مجري إلى النمسا سيراً على الأقدام.
بعد أشهُر أطلق الجيش الأمريكي "عملية الملاذ الآمن" ونقلوا نحو 30 ألف مجري إلى خارج النمسا بالطائرات والسفن، وصل معظمهم إلى ولاية نيوجيرسي الأمريكية. كان الرئيس الأمريكي حينها، أيزنهاور، مقيداً بحصص الهجرة الصارمة التي فرضتها أمريكا، إذ كان نظام حصص الهجرة الأمريكية يمنح نحو 800 تأشيرة سنوياً فقط.
سعت إدارة أيزنهاور للبحث عن مخرج لمساعدة اللاجئين المجريين، وكان في مشروع قانون الهجرة لعام 1952 بند واحد من شأنه أن يغير نظام الهجرة الأمريكي.
كان البند يسمح بدخول الأفراد إلى الولايات المتحدة على أساس طارئ، مما يعني أن هؤلاء الأفراد يمكنهم تجاوز جميع ضوابط الهجرة المعمول بها. فسّرت إدارة أيزنهاور هذا البند على أنه وسيلة لمنح الدخول الطارئ لـ15 ألف لاجئ مجري. وفي غضون عامين طلب الرئيس أيزنهاور من الكونغرس إقرار قانون "التعديل المجري" لتسوية وضع اللاجئين المجريين الذين قدموا إلى أمريكا.
حدث الأمر أكثر من مرة بعد ذلك، في أعقاب الثورة الكوبية عام 1959، حين هاجر نحو مليون كوبي إلى الولايات المتحدة وأغلبهم تحت بند حالة إطلاق سراح مشروط.
وحدث ذلك أيضاً في أبريل/نيسان 1975 بعد الانسحاب الفوضوي للقوات الأمريكية في أثناء سقوط سايغون، ودخول نحو 170 ألف فيتنامي إلى الولايات المتحدة في ظل نظام "الإفراج المشروط". وبعد ذلك ببضع سنوات مررت الحكومة الأمريكية قانون "التكيف" الذي يوفر طريقاً للإقامة الدائمة.
قانون التكيف ليس للأفغان
لم يَسِر الأمر بتلك السلاسة مع الأفغان؛ في عام 2022 رفض الكونغرس الأمريكي قانون "التكيف الأفغاني" لتسوية أوضاعهم قانونياً ومنحهم بطاقات الإقامة الخضراء "غرين كارد". وفي حين أن مشروع القانون شارك فيه خمسة ديمقراطيين وخمسة جمهوريين من مجلس الشيوخ، فقد أعرب بعض الجمهوريين عن معارضتهم لمشروع القانون، مستشهدين بتقارير هيئة الرقابة الحكومية التي أثارت تساؤلات حول كيفية فحص الأشخاص الذين جرى إجلاؤهم والتأكد من خلفياتهم الأمنية، وأشاروا إلى أن عملية التدقيق الأولية كانت معيبة،، خصوصاً أن بعض الأشخاص الذين جرى إجلاؤهم أتلفوا المستندات التي قد تكون مطلوبة في قضية اللجوء، وبعضهم خلَّف وراءه كل متعلقاته الشخصية.
في المقابل، وبعد عام واحد من قدوم الأفغان، وصل نحو 300 ألف أوكراني إلى الولايات المتحدة في إطار برامج مختلفة، وهو عدد أكبر من جميع الأفراد الذين قدموا إلى الولايات المتحدة من مختلف أنحاء العالم، وجرى قبولهم من خلال برنامج اللاجئين في السنوات الخمس الماضية.
تقول ماهسا خانباباي، وهي رئيسة فريق العمل الأفغاني التابع لجمعية محامي الهجرة الأمريكية، إنه "لا يوجد فارق بالنسبة إلى الوضع القانوني لكل من الأفغان والأوكرانيين، فجميعهم مفرج عنهم بشروط،" وتضيف في معرض حديثها مع TRT عربي أن "عملية التقدم بطلب للحصول على برنامج الإفراج الإنساني المشروط مختلفة بشكل ملحوظ"، مؤكدة أن "لدى الأوكرانيين عملية بسيطة للغاية لتقديم طلب الإفراج المشروط، فيما يواجه بعض الأفغان عملية أشبه بجدار يبلغ ارتفاعه ميلاً تعلوه أسلاك شائكة".
وضع ضاغط
وقد حصل أقل من 5000 من أصل 77000 أفغاني، أُعيد توطينهم في الولايات المتحدة بموجب عملية قانونية خاصة، على وضع قانوني دائم لأنفسهم ولأُسَرهم.
حتى فبراير/شباط الماضي تقدَّم أكثر من 14 ألف أفغاني انتقلوا إلى الولايات المتحدة في إطار عملية الترحيب بالحلفاء بطلب اللجوء، وقد وافقت الولايات المتحدة حتى الآن على 1175 طلباً من هذه الحالات فقط، التي يمكن أن تشمل أطفالَ وأزواجَ مقدِّم الطلب الرئيسي.
في الوقت ذاته تلقت الولايات المتحدة أيضاً 14600 طلباً آخر من الأفغان الذين يسعون للحصول على إقامة دائمة من خلال برنامج تأشيرة الهجرة الخاصة، الذي يسمح للمترجمين والمترجمين الفوريين وغيرهم ممن خدموا في الجيش الأمريكي بالبقاء في الولايات المتحدة مع أزواجهم وأطفالهم. جرت الموافقة على ما يزيد قليلاً على 3600 حالة فقط حتى الآن.
التأخير في الوضعية القانونية لهم تصفه ماهسا بـ"الأمر الضاغط"، وتقول إنّ "عديداً من الأفغان الذين جرى إجلاؤهم إلى الولايات المتحدة ما زالوا مقيدين بالأوراق المتعلقة بالهجرة، بما في ذلك طلبات إعادة الإفراج المشروط وطلبات اللجوء المعلقة".
وعلى الرغم من تأكيدات خانباباي بأنه قد جرى منح البعض حق اللجوء وباشروا على إثرها عملية إحضار أُسَرهم إلى الولايات المتحدة، فإنها في الوقت ذاته توضح أن الأمر يستغرق سنوات عديدة، "وهي فترة طويلة مذهلة بالنسبة إلى الأشخاص الذين تعرضوا للصدمات والانفصال العائلي،" على حد قولها.
تضيف خانباباي، في الوقت ذاته، أن "في عدد القضايا المعلّقة في السفارة الأمريكية في إسلام آباد تضخماً، مما أدى إلى تأخيرات مخيفة في المعالجة القنصلية للقضايا"، واصفة أن "بعضها ينطوي على مصاعب ومخاطر كبيرة لأولئك الذين ينتظرون في باكستان لإجراء مقابلة لتسلُّم التأشيرة"، مؤكدة أن "النقص الواضح في الموارد الكافية لهذه السفارة المكتظة بالقضايا العالقة أمر مثير للقلق".
استقرار زائف.. وانتظار طويل
لم يمنح الوضع المؤقت، رغم الدعم الحكومي المحدود، كثيراً من الأفغان حالة الاستقرار، بل جعلهم في وضع دائم من الترقب وعدم اليقين.
ومثل بعض اللاجئين الآخرين الذين أُعيد توطينهم، يواجه كثير من الأفغان ضغوطاً هائلة دفعتهم إلى العثور على أي وظيفة متاحة بسرعة نظراً إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، ومحدودية المساعدة المتاحة، والأُسَر الكبيرة التي يعولونها.
كما وجد عديد منهم وظائف منخفضة الأجر في التصنيع، أو الضيافة، أو البيع بالتجزئة، أو تجهيز الأغذية، أو النقل بالشاحنات لدعم أنفسهم وأُسَرهم. ومع الوضع المؤقت يصبح الاستقرار الوظيفي الهش معرَّضاً للخطر بالنسبة إلى كثيرين.
تلقي القانونية خانباباي باللوم في هذا الوضع على البيروقراطية الأمريكية، قائلة: "هناك ما يربو على عشرات الآلاف من طلبات اللجوء في انتظار مقابلة إدارة خدمات المواطنة والهجرة في الولايات المتحدة. ليس هناك ما يكفي من الموظفين للفصل في هذه القضايا".
ورغم وصفها الوضع الإنساني والمعيشي لمعظم الأفغان الذين جرى إجلاؤهم بالصعب وغير المستقر، فإن خانباباي لا ترى أي حلول تلوح في الأفق غير استمرار الأفغان في تمديد فترة الإفراج المشروط في أثناء إعداد طلبات اللجوء وتقديمها، للشعور ببعض الاستقرار حتى لو كان زائفاً.
وقبل شهرين من انتهاء المهلة المؤقتة، وبعد رفض قانون "التكيف الأفغاني" في ديسمبر/كانون الأول 2022، مدّدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن العمل ببرنامج "الإفراج المشروط الإنساني" لمدة عامين آخرين، ومع ذلك يبقى الوضع مؤقتاً.
ويستعدّ المشرعون المناصرون لقانون "التكيف الأفغاني" لإعادة طرحه مرة أخرى في الكونغرس الأمريكي أملاً في إقراره وتوفير فرص معيشية أفضل للأفغان في إطار قانوني يحمي حقوقهم ويضمن لهم الاستقرار.
وترى خانباباي أنه رغم أن هناك جهوداً شاقة جارية لسنّ قانون التكيف فإنه "من المؤسف أن عديداً من أعضاء الكونغرس يتعمدون عرقلة العملية. نحن في انتظار إعادة طرحها مرة أخرى في المجلس الحالي، ونأمل أن يستقر الأفغان بشكل قانوني".