تابعنا
أعادت هذه الهزة المصرفية إلى أذهان المودعين والمالكين الأزمة الاقتصادية لعام 2008، وهو الأمر الذي أثار تساؤلات حول مستقبل النظام المالي العالمي في الفترة القادمة؟

أحدث إفلاس بنوك معروفة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا هلعاً في السوق المالية العالمية، بسبب الخوف من أن يكون هذا الانهيار بداية لعاصفة اقتصادية قوية قد تضرب العديد من المصارف في مختلف دول العالم، بالنظر إلى أن جميع المؤسسات البنكية تعتمد في عملها على نظام فوائد وائتمان متشابه إلى حد كبير.

وأعادت هذه الهزة المصرفية إلى أذهان المودعين والمالكين الأزمة الاقتصادية لعام 2008، وهو الأمر الذي أثار تساؤلات حول مستقبل النظام المالي العالمي في الفترة القادمة؟

انهيارات متوالية

قبل عدة أسابيع، استيقظ العالم على خبر إعلان السلطات الأمريكية غلق مصرف "سيليكون فالي بنك" إثر عجز المصرف الذي تخصص في دعم المؤسسات التكنولوجية والناشئة عن تلبية عمليات السحب الهائلة لعملائه بالرغم من تمتعه بأصول بلغت قيمتها 209 مليارات دولار وودائع بلغت حاجز 175,4 مليار دولار.

وبينما كانت إدارة الرئيس جو بايدن تحاول احتواء أزمة "إس في بي"، امتدت موجة الانهيار إلى بنوك أخرى أدت حتى الآن إلى إغلاق مصرفي "سيغنتشر" و"سيلفر غيت"، وهما بنكان يعملان أيضاً في مجال المؤسسات التكنولوجية.

ولم تتوقف أزمة المصارف في الولايات المتحدة، بل سرعان ما امتد الإفلاس إلى أوروبا ليشمل بنك "كريدي سويس"، فيما يواجه أعرق البنوك العالمية "دويتشه بنك" هو الآخر هذا الخطر بعدما فقد 15% من قيمته في يوم واحد، رغم تحرك إدارة المستشار الألماني أولاف شولتز لمنع ذلك وبعث تطمينات بشأن قوة المصارف الأوروبية في تجاوز أي أزمة بنكية محتملة.

وأوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة الشهيد الشيخ العربي التبسي الجزائرية عثمان عثمانية لـ"TRT عربي" أن "أسباب الإفلاس تختلف بين أمريكا وباقي الدول الأوروبية، فالبنوك الأمريكية عانت بشدة من سياسة التشديد النقدي التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي منذ شهر أغسطس/آب 2022، كونه رفع أسعار الفائدة إلى تسعة أشهر متتالية".

وأضاف: "كان المصرفيون في السابق يرددون شعار "النقود الرخيصة لها ثمن"، وهو ما تحقق. فسنوات من سعر الفائدة المنخفضة جعل من سندات الخزانة جذابة للاستثمار، لذلك سارعت الكثير من البنوك للاستثمار فيها، لكن مع ارتفاع أسعار الفائدة انخفضت قيمتها، بسبب إصدار سندات خزانة ذات عوائد أعلى، وهو ما خلق مشاكل بالنسبة إلى البنوك التي قررت بيع سندات تمتلكها في هذا التوقيت.

هذا ما حدث بالنسبة إلى بنك سيليكون فالي، الذي خسر 1.8 مليار دولار عندما قرر عدم انتظار حلول تواريخ الاستحقاق أو الوقت المناسب للبيع، ومع ارتفاع أسعار الفائدة أصبح وصولها إلى التمويل أصعب من السابق، وبالتالي تقلصت ودائعها في البنك.

وينبه الدكتور عبد الرحمن عية الأستاذ المحاضر بكلية العلوم الاقتصادية بجامعة ابن خلدون الجزائرية في تصريحه لـTRT عربي أن من "الأسباب الرئيسية لإفلاس بنك "سليكون فالي" ارتباطه بدعم قطاع المؤسسات الناشئة الذي حدث فيه تشبع، وهو أمر طبيعي في دورة حياة المنتج الاقتصادي، لذلك حدثت هذه الأزمة في هذا المصرف تحديداً".

ويعتقد عبد الرحمن عية أن الصدمة المصرفية التي حدثت في أوروبا "مرتبطة بالأساس بالاضطرابات الاجتماعية ونقص العمالة التي أدت إلى رفع أسعار الفائدة، وبالخصوص عقب ارتفاع أسعار النفط والغاز نتاج الحرب الروسية الأوكرانية وجائحة كورونا".

ويشير عثمان عثامنية إلى أن سبب إفلاس "كريدي سويس" ليست وليدة اليوم، إنما هي "نتيجة تراكم مشاكل يواجهها منذ مدة، جراء استقالة مديره التنفيذي بعد فضيحة تجسس، والتي جعلت البنك يتعرض لخسائر متوالية أدت في النهاية إلى هذه النتيجة".

وقال المدير التنفيذي لإدارة الأصول في "أورو كوربورايت" نادر حداد لـTRT عربي إن "ارتفاع سعر الفائدة أدى إلى ارتفاع كلفة الإقراض التي ساهمت بشكل كبير في إفلاس العديد من البنوك وزعزعة استقرارها المالي".

تأثير التضخم

وأوضح الأستاذ عثمان عثامنية أن "التضخم سبب رئيس في ما يحدث اليوم فالاقتصاديات الغربية تشهد ارتفاعاً في معدلات التضخم منذ السنة الماضية، بسبب الأموال الهائلة التي جرى ضخها في تلك الاقتصاديات خلال جائحة كوفيد-19، ثم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء".

وقال عثامنية لـTRT عربي إن "البنوك المركزية اختارت لمواجهة هذا الوضع رفع أسعار الفائدة، بخاصة بعد مضي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في سياسة التشديد النقدي، ورفع سعر الفائدة 9 مرات متتالية منذ صيف 2022"، مضيفاً أن "ارتفاع أسعار الفائدة يجعل من الوصول إلى التمويل أصعب من السابق، وبالتالي تقل الودائع وتزيد سحوبات العملاء، كما أن السندات التي جرى الحصول عليها عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة، تصبح أقل عائداً برفع أسعار الفائدة، وبالتالي أقل قيمة عند بيعها قبل حلول تاريخ استحقاقها".

وأردف بالقول "إن التضخم ورفع سعر الفائدة لمواجهته يعتبر السبب الرئيس في انهيار البنوك الأمريكية".

وسجلت الولايات المتحدة الأمريكية العام الماضي مستويات قياسية من التضخم الذي وصلت نسبته السنوية في شهر مايو/أيار إلى 8.6%، وهي الأعلى منذ 40 سنة، لينخفض في شهر فبراير/شباط المنقضي إلى 6%، لكنه يبقى مرتفعاً حسب الخبراء الذين يعتقدون أن هذا الوضع سيستمر حتى 2024.

وأشارت الإحصاءات أيضاً إلى تسجيل الاتحاد الأوروبي تضخماً هو الأعلى منذ 40 سنة العام الماضي، عندما بلغ في شهر أغسطس/آب عتبة 9.8%.

وقال نادر حداد الذي اشتغل مستشار مَخاطر أول في بنك "سوسييتيه جنرال" لـ TRT عربي إن "البنوك المركزية في حرج كبير، فهي تعيش تحت ضغط إفلاس البنوك و ضرورة إنقاذها، وفي الوقت ذاته عليها حل مشكل التضخم الذي يقتضي رفع سعر الفائدة" .

عدم ثقة

أوضح الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي لـTRT عربي أن أحد الأسباب الرئيسية "لإفلاس المصارف الأمريكية يعود إلى تراجع ثقة المودعين بعد هبوط قيمة الودائع نتيجة أخطاء ارتكبها المُسيِّرون، وذلك بسبب الاستثمار الكبير في سندات الخزانة الأمريكية التي فقدت قيمتها بعد رفع نسب الفائدة من قبل الفيدرالي الأمريكي".

وأضاف كاوبي أنه من الطبيعي أن "تنتقل وضعية الشك والارتياب في الأسواق المالية من أسواق إلى أخرى، ما يجعل المودعين يسارعون إلى استعادة أموالهم، الأمر الذي قد يتسبب في انهيار بعض أصول البنوك"، مُبيّناً أن "حالة عدم اليقين التي تشكلت لدى المودعين في الولايات المتحدة انتقلت إلى أوروبا، بالنظر إلى أن عامل الارتياب لا يمكن إيقافه بسهولة".

وسينعكس هذا الارتياب على الجهات الرسمية التي ستعتمد إجراءات رقابية عالية، فقد كشفت صحيفة "لوموند" الفرنسية الثلاثاء الماضي، أن حوالي 150 محققاً من وزارة المالية الفرنسية، و16 قاضياً فرنسياً، و6 مدعين ألمان داهموا بنوكاً كبرى، في إطار تحقيق يتعلق باحتيال وتهرب ضريبي واسع.

وجاء في الصحيفة أن المداهمة تمثلت في عمليات تفتيش في باريس وحولها بشأن قضية يشتبه في أنها حرمت السلطات من عائدات ضريبية تزيد عن 108 مليارات دولار، مشيرة إلى أن القائمة تضم مصارف كبرى هي "سوسيتيه جنرال" و"بي إن بي باريبا" و"إكسان" التابع لـ" BNP" و"Natixis" و"HSBC".

ويعتقد الأستاذ عثمان عثامنية أنه "للخروج من هذا المأزق، على الحكومات والبنوك المركزية العمل على تعزيز الثقة في النظم المصرفية، والتدخل بسرعة وبشكل حاسم لحماية العملاء، إضافة إلى تخفيف وتيرة سياسة التشديد النقدي، حتى يتحقق الاستقرار المالي".

أزمة 2008

رغم الهزات الذي تعيشها المصارف هذه الأيام، فإن الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي يعتقد أن العالم لا يتجه نحو تكرار ما عاشه سنة 2008، قائلاً في هذا السياق لـTRT عربي إنه "من الممكن أن تعيش أوروبا مشكلة قيمة الودائع إلا أنها لن تكون بالحدة نفسها التي سجلتها في 2008، لأن الحكومات شددت في الفترة الأخيرة الرقابة على البنوك التجارية من خلال تقليل قيمة المخاطرة".

وأضاف: "نعم، الواقع جد صعب. لكن في حال استمر نسق إفلاس المصارف على حاله فإن الدول الكبرى ستجتمع لطمأنة الأسواق، بما فيها الصين لأنها المكتتب الأول في السندات الأمريكية، وذلك لمنع أي تطورات قد تؤدي إلى تكرار ما حدث سنة 2008".

وبدوره يعتقد الأستاذ عثمان عثامنية أنه في الوقت الحالي "لا توجد مؤشرات توحي بتكرار ما حدث قبل 15 سنة، لأن الأزمة محصورة في نطاق معين، على الرغم من أن بنوكاً مثل سيليكون فالي وسيغنتشر يصنفان في المرتبتين 16 و21 كأكبر بنوك في أمريكا، إلا أن حجم البنكين مع بعضهما البعض أقل بكثير من البنوك الكبرى مثل مورغان جي بي وغولدمان ساكس اللذين انهارا عام 2008".

وأشار إلى أنه "يوجد عامل آخر يحول دون تكرار ما حدث في 2008، ويتعلق يتدخل السلطات سواء في أمريكا أو في أوروبا، "بشكل سريع وحاسم، لضمان ودائع العملاء بالكامل، حتى تلك التي لا تغطيها شركة تأمين الودائع الفيدرالية في أمريكا أو شركات التأمين في أوروبا".

TRT عربي
الأكثر تداولاً