صمود قطاع غزة ومقاومته من النكبة إلى طوفان الأقصى وما بعده، حكايات يحفظها الشعب الفلسطيني ويوثقها التاريخ.
في هذه المقابلة الخاصة لـTRT عربي مع المؤرخ والسياسي عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني عبد القادر ياسين نستعرض معه خصوصية قطاع غزة، وكيف تطورت المقاومة عبر العقود، وهل حققت إسرائيل أهدافها من الحرب؟ ذاكراً "تواطؤ" و"إجرام" البعض، مستعرضاً رؤيته عن مستقبل القطاع ومستقبل القضية الفلسطينية في ظل مشروع التهجير ومحاولات الإبادة الجماعية.
المقاومة في غزة.. من النكبة إلى الطوفان
منذ النكبة وقطاع غزة في مواجهة مستمرة مع الاحتلال الإسرائيلي، ما الأسباب التي تسهم في تغذية هذه الروح المقاتلة؟
أخذ أهالي غزة مع المهاجرين إليها منذ النكبة على عاتقهم مقاومة المحتل، إذ كان عدد سكان القطاع 150 ألفاً سنة 1948، ثم لجأ إليه نحو 200 ألف من اللاجئين، مما ساهم في بلورة روح كفاحية لأنّهم يريدون العودة إلى بيوتهم، ونلاحظ أنّ حركات فتح وحماس والجهاد تأسست في غزة وليس بالضفة الغربية.
ديفيد بن غوريون، الرمز الصهيوني المعروف ورئيس وزراء إسرائيل لسنوات، قال أنّه يتمنى لو أنّ البحر يبتلع غزة، وجاء إسحق رابين بعده ردّد نفس الكلام.
حين وقعت النكبة تقوّضت البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الفلسطينية وأصبح من الصعب تنظيم مقاومة، لكن حلّ محلها قوة "القضية الوطنية".
يعود الأفراد إلى بيوتهم لاستعادة حاجاتهم وكانوا يصطدمون مع الصهاينة، شيئاً فشيئاً أصبحوا يذهبون في جماعات مسلحة يواجهون الصهاينة ويسترجعون أشياءهم، وكانت وقتها المحاكم العسكرية المصرية التي تحكم قطاع غزة تصدر أحكاماً قاسية عليهم بتهمة التسلل إلى وطنهم المحتل تصل إلى السجن 12 عاماً، إلى أن حدث عدوان عسكري في 28 فبراير/شباط 1955 على "بير الصفا" وقُتل فيه 39 جندياً مصرياً وسودانياً وفلسطينياً.
اندلعت في اليوم التالي انتفاضة عارمة في القطاع، الذي نشط فيه تنظيمان سياسيان في غزة آنذاك، الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين. واللافت نشوء تحالف يتيم وخاطف بينهما في هذه الانتفاضة التي رفعت شعارات معادية لعبد الناصر بسبب توقيع الحكومة المصرية عقداً مع وكالة غوث اللاجئين يقضي بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء قرب بورفؤاد.
بعد هذه الانتفاضة لجأ عبد الناصر إلى تشكيل "الكتيبة 141 فدائيين"، وأخرج من سبق للمحاكم العسكرية المصرية سجنهم، بتهم التسلل إلى فلسطين، ووضع على رأسها الشهيد البكباشي مصطفى حافظ وقتلت مئات من الصهاينة مما هزّ المشروع الصهيوني مبكراً.
خلال معركة الطوفان أظهرت الفصائل الفلسطينية قدراً كبيراً من العمل المؤسسي، كيف انتقلت وتطورت المقاومة ووصلت إلى هذا الحد؟
المواجهة مع العدو المجرم المدعوم من الإمبريالية الأمريكية هي السبب الرئيس لهذا التطور الذي فاق العقلية الإسرائيلية وتجلى ذلك في عملية طوفان الأقصى.
نشأت حماس مطلع عام 1988 غداة ما عُرف بانتفاضة الحجارة التي اندلعت في 9 ديسمبر/كانون الأول 1987، وأصدرت برنامجاً كان أقرب إلى خطبة جمعة، لكن البرنامج اللاحق بعد نحو 15 سنة كان برنامجاً سياسياً معتبراً.
جاء هذا نتيجة التطور الذي حدث في البنية السياسية والفكرية لحماس التي قطعت شوطاً طويلاً من خلال المواجهة مع معسكر الأعداء، فتطور خطابها السياسي، وتطور أيضاً أداؤها العسكري، حتى وصل الأمر إلى ما إن تدخل مجموعة من الجنود الإسرائيليين حتى يُلقَّنونَ درساً لا ينسوه.
اكتسبوا مهارات عسكرية لافتة، وفي نفس الوقت ارتقى خطابهم السياسي فلم يعودوا، مثلاً، يعادون اليهودية ديناً بل الحركة الصهيونية باعتبارها حركة استيطانية اجتثاثية إحلالية.
القضية الفلسطينية في ظل الطوفان
كيف ترى وتقيّم الموقف الدولي والعربي من الحرب في غزة، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي؟
انحازت الشعوب العربية للفلسطينيين لكن المشكلة تكمن في الأنظمة، بعضها عاجز وبعضها متواطئ، ومن الصعب تغيير مواقف هؤلاء الحكام ولكن من الممكن حدوث تغييرات من خارج هذه الأنظمة القائمة.
إذا كانت حرب 48 أحدثت تغييرات في الدول المحيطة فإن طوفان الأقصى وما تبعها سيترتب عليه تغييرات أعمق عربياً.
وفيما يتعلق بالموقف الدولي تأكد بعد طوفان الأقصى أنّ كل الحكومات الغربية، وعلى رأسها أمريكا، تقف مع إسرائيل، لكنّ الرأي العام الغربي جاء عكس مواقف حكوماته ورأينا المظاهرات الحاشدة في العواصم الغربية. باعتباري فلسطينياً يعيش في الشتات، يسهم أبناء الشعب الفلسطيني في الحراك الشعبي المواجهة لإسرائيل، كيف ترى انعكاس الحرب على فلسطينيّي الشتات؟
بعد طوفان الأقصى أنا عشت الأمل في مستقبل القضية الفلسطينية، وهذا أمر مهم من شأنه تحويل أنظار الفلسطينيين من التوجه إلى الخارج إلى التوجه إلى داخل فلسطين والأمل في الانتصار وأنّه لا مجال للتسوية مع إسرائيل التي لا ترى إلا حلاً واحداً هو تصفية القضية الفلسطينية.
أعلنت إسرائيل الذهاب إلى المرحلة الثالثة من هجومها على غزة، هل نجحت في تحقيق أهدافها؟
إسرائيل لجأت إلى سلاح الجبان، وهو قتل المدنيين بالطيران، ولم تستطع تحقيق هدف القضاء على حماس، حتى أمريكا نصحتهم بتغيير الهدف إلى إضعاف حماس، لأنّ القضاء عليها مستحيل.
الصهاينة يستهدفون المدنيين وفي القلب منهم النساء والأطفال، النساء اللاتي يلدن هؤلاء الأطفال، والأطفال الذين يمثّلون مستقبل القضية الفلسطينية، هم يريدون أن يغتالوا هذا المستقبل.
هذه هي المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي تجري فيها محاولات إبادة للشعب الفلسطيني، أنا حضرت نكبة 48 وحرب 56 و67 كلها بمثابة مزحات أمام ما يحدث اليوم، قرابة 1.5% من شعب القطاع جرت إبادته ونحو 3% مصابون بجروح وإعاقات.
سيناريوهات الحرب
وما بعدهامنذ بداية الحرب وقضية التهجير تحتل موقعاً مركزياً في النقاش حول الحرب، كيف تراها الآن وهل ما زال الخطر قائماً؟
سبق أن قبرنا مشروع توطين اللاجئين في سيناء الذي وقّعته الحكومة المصرية مع وكالة غوث اللاجئين، عبر أمريكا في يونيو/حزيران 1953 وقضينا عليه في 1955، وهذا الأمر لن يتكرر.
الفلسطينيون يؤكدون كل يوم وفي كل موقف أنّهم ولدوا في فلسطين وسيموتون فيها ولن يتزحزحوا عنها لذلك يلجأ الصهاينة إلى قتل المدنيين وتدمير المنازل حتى تصبح الإقامة في القطاع مستحيلة.
هل يمكن فعلاً حل مستقبل قطاع غزة فلسطينياً في ظل الانقسام الفلسطيني القائم؟ وكيف يمكن جمع حركة حماس وبرنامجها السياسي مع السلطة الفلسطينية والتزاماتها مع إسرائيل؟
لا يوجد انقسام فلسطيني بل معسكران الأول مهادن للعدو، والمعسكر الأكبر لا يزال يقاتل من أجل تحرير فلسطين، ولأن إسرائيل تتوقع أن تنتصر في غزة فإنها تريد أن تأتي بشخصيات من المعسكر المهادن لحكم القطاع.
كيف ترى قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية؟ وهل ستعاقَب إسرائيل دولياً؟ وكيف ترى وضعها داخلياً؟
جنوب إفريقيا التي عانت كثيراً من الفصل العنصري وتحكُّم الرجل الأبيض رأت أنّ فلسطين تعيد طرح نفس القضية من جديد، ولا أتوقّع أحكاماً أو عقوبات ضد إسرائيل لأنّ ميزان القوى في المحافل الدولية لصالح إسرائيل وأمريكا.
إسرائيل توغلت في طريق بلا عودة، ودخلت في أزمات، ربّما تتوهم أنّ هذه الحرب ستخرجها منها، لكن أعتقد أنّ نتنياهو دوره انتهى، ولكن كالعادة في إسرائيل لا يغيرون كبار مسؤوليهم في أثناء الحرب على قاعدة أنّ الخيول لا يمكن تغييرها في أثناء السباق.