تركز الحكومة المصرية على ترشيد الاستهلاك مع استئناف تصدير الغاز المسال المصري لأجل تأمين موارد مالية للبلاد التي تعاني آثار التضخم / صورة: AA Archive (AA Archive)
تابعنا

مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تنامت المخاوف وحالة عدم اليقين على أسواق الغاز إقليمياً وعالمياً، لا سيما إمدادات غاز الشرق الأوسط، بعد أن أصبحت إسرائيل مصدراً رئيسياً منتجاً للغاز في السنوات الأخيرة لامتلاكها حقل ليفياثان وتمار وكارليش.

تمثلت أولى تلك المخاطر في تعطيل شركة شيفرون العمل في حقل "تمار" ثاني أكبر حقول الغاز لدى إسرائيل، والواقع على بعد 90 كم غرب حيفا، و24 كم غرب عسقلان، ويمد إسرائيل بـ70% من احتياجات استهلاك الطاقة، ويغذي نحو 1.5% من إمدادات الغاز الطبيعي المسال "LNG" في العالم.

وترتب على ذلك تحويل إمدادات حقل "ليفياثان" إلى السوق الداخلية وقطع إمدادات الغاز المتجهة إلى مصر عبر خطوط غاز شرق المتوسط، والذي تجري إسالته في محطة إدكو المصرية، ومن ثم تصديره إلى أوروبا.

وطالت آثار تعطيل حقل تمار لمصر وأوروبا، وخلقت مخاوف أيضاً أمام الأردن التي تعتمد بشكل أساسي على الغاز القادم عبر الأراضي الفلسطينية.

ولم تتوقف المخاوف حول آثار الحرب على الإمدادات الحالية، وامتدت لتحيط بمستقبل تدفق الاستثمارات إلى تلك الحقول، إذ إن حرباً كهذه إذا استمرت وتوسعت فإنها قد تؤجل الخطط الهادفة إلى توسيع حقل تمار بنسبة 65%، وكذلك خطط إنتاج 6.5 مليار متر مكعب من حقل كارليش.

وأي تصعيد للصراع سيؤثر في المنطقة بشكل أوسع من شأنه أن يخاطر بتعطيل إنتاج الغاز وصادراته من إسرائيل، إضافةً إلى احتمال إعاقة مرور سفن الغاز الطبيعي المسال عبر مضيق هرمز.

شظايا الحرب على غزة تطال أسواق الغاز

قد شهدت الأسواق تذبذباً في أسعار الغاز الطبيعي الأوروبي، في ظل مخاطر الشتاء مقابل انخفاض المخاوف -ولو مؤقتاً- بشأن الإمدادات قصيرة الأجل من الشرق الأوسط.

وتجاوبت أسعار الغاز الطبيعي الأوروبي الهولندي (TTF) مع قرار الحكومة الإسرائيلية بتعطيل العمل في حقل تمار والحرب بشكل عام، إذ ارتفعت العقود الآجلة بنسبة 41% لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ 8 أشهر وذلك عند 56 يورو لكل ميجاوات/ ساعة.

ورغم أن الاعتماد الأوروبي على صادرات الغاز القادمة من المسار الإسرائيلي المصري لا يتجاوز 5% من الطلب الأوروبي على الغاز، وامتلاء مخزونات الغاز الأوروبية حالياً، فإن السوق الأوروبية تظل بحاجة إلى استمرار الإمدادات بخاصة مع قدوم فصل الشتاء، وعدم كفاية كمية الغاز المخزنة وحدها لتلبية الطلب الأوروبي، وذلك وفقاً لتصريحات جيوفاني ستونوفي من بنك "يو بي إس".

ومع استمرار مخاوف توسع نطاق الصراع في منطقة الشرق الأوسط، فإن الضغوط تتزايد على أوروبا بشأن تأمين مصادر بديلة للغاز الطبيعي، كما نصت عليه الاستراتيجية الأوروبية الجديدة (REPowerE)، والتي تستهدف نقل توزيع مصادر الواردات الأوروبية من الطاقة الكربونية بين أمريكا وقطر ومصر بعد أن تخلّى الاتحاد الأوروبي عن الغاز الروسي تنفيذاً للعقوبات المفروضة على روسيا بشأن غزوها لأوكرانيا.

مصر.. مركز إقليمي للطاقة

تطمح مصر إلى أن تكون لاعباً إقليمياً ودولياً وحلقة وصل رئيسية لنقل الطاقة من شرق المتوسط إلى السوق العالمية، لا سيما الغاز الطبيعي المسال (LNG).

وارتفع سقف هذا الطموح تزامناً مع ارتفاع الطلب الأوروبي تجاه صادرات الغاز المصرية لتعويض العجز المتحقق نتيجة فرض العقوبات الأوروبية على النفط والغاز الروسي، وتشجع أوروبا هذا التوجه، إذ صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية بأن المفوضية تدعم فرص أن تكون مصر مركزاً إقليمياً لنقل الطاقة.

وفي هذا الإطار، وقّع الاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم مع كل من مصر وإسرائيل، تهدف إلى رفع صادرات الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا بعد تسييله في مصر كأحد بدائل الغاز الروسي الذي كان يوفر نحو 40% من احتياجات القارة من الغاز الطبيعي، وسط توقعات بأن تعمل هذه الاتفاقية على تشجيع المستثمرين الأوروبيين للتنقيب عن الغاز في المنطقة، لا سيما في مصر التي تضم محطات الإسالة الوحيدة في الشرق الأوسط.

أثر اضطراب سوق الغاز على الاقتصاد المصري

يأتي الغاز الطبيعي على رأس قائمة مصادر الطاقة في مصر، ويمثل الاعتماد عليه قرابة 57% من إجمالي مصادر الطاقة الأخرى، وتستهلك مصر قرابة 60 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي خلال عام 2022، بمتوسط 6.1 مليار قدم مكعب يومياً.

ووفقاً لوكالة الطاقة الأمريكية، فإن قرابة 87% من إجمالي إنتاج مصر من الغاز يجري استهلاكه محلياً، كما تستهلك قرابة 67% من الغاز الإسرائيلي.

وبعد توقف حقل "تمار" عن الإنتاج، أعلن مجلس الوزراء المصري في 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، هبوط الواردات المصرية من الغاز من الصفر بعد أن كانت تصل إلى 800 مليون متر مكعب يومياً.

ويشكل إغلاق الحقل وتعطيل واردات الغاز الإسرائيلية عقبة أمام قدرة مصر على استئناف صادرات الغاز الطبيعي المسال على نطاق واسع، إلا أن مصر في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تستعد لاستئناف صادرات الغاز المسال بالتزامن مع زيادة تدفق واردات الغاز الإسرائيلي لمستويات فاقت ما كانت عليه قبل الحرب على غزة.

وتركز الحكومة المصرية على ترشيد الاستهلاك مع استئناف تصدير الغاز المسال المصري لأجل تأمين موارد مالية للبلاد التي تعاني آثار التضخم، وقد دفعت أزمة انقطاع الكهرباء في مصر الحكومةَ إلى اتخاذ قرار بوقف تصدير الغاز طوال أشهر الصيف، بسبب زيادة حجم الاستهلاك، على أن يُستكمل في باقي فصول السنة تصدير الفائض.

وعادت صادرات الغاز المسال المصرية إلى الأسواق العالمية، خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ جاءت زيادة عدد ساعات قطع التيار الكهربائي في محاولة لتعويض نقص الإمدادات من إسرائيل.

وحسب تصنيفات "إس آند بي غلوبال" وصلت صادرات الغاز الطبيعي المسال المصرية حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 3.38 مليون طن فقط، مقارنة بـ7.1 مليون طن لعام 2022 بأكمله، واستحوذت أوروبا وتركيا مجتمعتين على 2.2 مليون طن متري من الإجمالي حتى الآن هذا العام، وهو ما يمثل ثلاثة أرباع صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال العام الماضي.

ونظراً إلى اعتماد مصر الكبير على توليد الكهرباء من خلال الغاز الطبيعي، إذ يشكل الاعتماد على الغاز نحو 77% من توليد الطاقة الكهربائية، فإن انخفاض إمدادات الغاز يهدد الاقتصاد المصري بحالة شلل جزئي، وظهر ذلك حين لجأت الحكومة المصرية إلى ترشيد استهلاك الكهرباء مع نقص إمدادات الغاز المحلية حتى قبل اندلاع الحرب.

ونتيجةً لذلك، صار الإنتاج في العديد من الصناعات بمصر مهدداً بقرار الحكومة بخفض توريد الغاز الطبيعي إلى المصانع كثيفة الاستهلاك، مثل صناعات الحديد والصلب والزجاج ومصانع إنتاج الأسمدة، إذ تعتمد على الغاز كمادة خام أساسية ومصدرٍ للطاقة، إذ تجاوبت المصانع مع هذه الأنباء بإقرار خطط لترشيد استهلاك الطاقة.

والذي يهدد كذلك توقعات تدفقات النقد الأجنبي انخفاض تصدير الغاز، وهو ما أشار إليه خبراء مصرفيون في مصر، وبيّنوا أن تعطل صادرات الغاز يُعد من أهم العوامل المقلقة بشأن تدفقات النقد الأجنبي.

تأثر إمدادات الغاز إلى الأردن

إذا كانت الشظايا المتناثرة من الحرب قد امتدت لتؤثر في أمن الطاقة الأوروبي، فليس غريباً أن تطال دول الجوار، فتبعاً لقطع الإمدادات عن مصر، قد أُثيرت مخاوف أيضاً لدى الأردن التي تعتمد على الغاز الإسرائيلي، والذي يوفر لها 1.5 مليار دولار سنوياً، إذ هو الخيار الأقرب جغرافياً.

ووفقاً لبيانات "إنر داتا"، فإن الأردن تعتمد على النفط في 49% من إجمالي استهلاكها من الطاقة، فيما تعتمد على الغاز الطبيعي بنسبة 37%.

لكن لا تزال توجد مخاوف تحيط بمسار هذه الإمدادات، بخاصة بعد إعلان الأردن على لسان وزير خارجيته، أنه لن يجري توقيع اتفاقية تبادل الطاقة الكهربية مقابل المياه "الطاقة مقابل المياه"، وهو ما يُتخوَّف أن يخلق توتراً بين الجانبين يمتدّ إلى التأثير في إمدادات الغاز أيضاً.

وكان كل من الأردن والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل قد وقعوا إعلان نوايا للتعاون في مجال الطاقة الشمسية وتحلية المياه في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وتهدف الاتفاقية إلى إنتاج الأردن 600 ميغاوات من الطاقة المتجددة لصالح إسرائيل، مقابل تحلية الطرف الآخر 200 مليون متر مكعب من المياه لصالح الأردن.

هل يستمر الغموض في سوق الغاز؟

أصبح المفتاح الأساسي للإجابة عن سؤال إمكانية استمرار حالة عدم اليقين يكمن في إمكانية توسع الصراع ليشمل رقعة إقليمية أكبر، بخاصة أن المنطقة تضم أهم الممرات المائية التجارية العالمية، وهي التي شهدت بالفعل توترات خلال الأسابيع الأخيرة الماضية وبخاصة في باب المندب.

يُشار إلى أن جماعة الحوثي قد سيطرت على سفينة منذ أقل من شهر، قالت إنها إسرائيلية تدعى "جلاكسي ليدر"، ما دفع أسعار الغاز الطبيعي أيضاً حينها إلى الارتفاع.

إن استمرار الحرب يدفع حالة الغموض لتُلقي بظلالها حول مستقبل صناعة الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط بشكل عام، وقدرتها على أن تصبح مصدراً رئيسياً إقليمياً وعالمياً.

وأشار بنك "غولدمان ساكس" إلى هذه النقطة تحديداً والمرتبطة باتساع النطاق الزمني والرقعة الجغرافية للحرب، متوقعاً بأنه في حال حدوث ذلك، فإن التأثير المترتب على ذلك في سوق الغاز سيكون قوياً، بخاصة إذا جاء معها انقطاع الإمدادات من مناطق أخرى أو تزامن مع ظروف جوية سيئة في أوروبا.

وحسب توقعات "بيل ويذبيرن" الخبير الاقتصادي في السلع لدى مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس"، فإن "الاتحاد الأوروبي سيكون لديه ما يكفي من الغاز في المخزون بدايةَ صيف العام المقبل لإعادة البناء قبل شتاء العام ذاته، وقد يؤدي فصل الشتاء البارد بشكل غير عادي إلى نفاد المخزون بسرعة، وقد يصل سعر الغاز الطبيعي إلى نحو 32 يورو ميجاوات/الساعة بنهاية عام 2024.

TRT عربي