تابعنا
أيام مرت على المواجهة الدائرة فوق أرض فلسطين ودارت فيها إلى جانب معركة الحديد والنار معارك إعلامية وسياسية لم تجب كلها حتى الآن سؤالاً يدور بذهن المراقب: ماذا بعد؟

تختلف ظروف المواجهة الحالية عن المواجهات السابقة التي كانت فيها غزة طرفاً في الصراع الدامي مع الاحتلال الإسرائيلي في العقدين الأخيرين، بخاصة الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة في أعوام 2007-2008 و2012، و2014. قبل ذلك وبعده واصلت إسرائيل حصارها المتواصل على قطاع غزة منذ عام 2005، وحولته إلى أكبر سجن في العالم بإغلاق حدوده والسيطرة على أجوائه.

وعلى الرغم من هذا الحصار الخانق تمكن الفلسطينيون في القطاع من تطوير قدرات قتالية وتعبئة الجمهور بعقيدة تحرير الوطن. في صلب هذه التعبئة كانت القدس بوصفها المدينة التي تضم المسجد الأقصى القبلة الأولى للمسلمين، الذي تعمل على هدمه والسيطرة على ساحاته أحزاب صهيونية متدينة مسلحة تدعمها حكومة الاحتلال.

وكانت الشرارة الرئيسية للمواجهة الحالية عزم سلطات الاحتلال على الاستيلاء على بيوت أهل القدس وطرد عدد من العائلات الفلسطينية من بيوتها في أحد أحياء المدينة المعروف باسم الشيخ جراح، وذلك لعزل الحرم القدسي وإكمال محاصرته من كل الجهات بالبؤر الاستيطانية اليهودية.

وقد صعدت إسرائيل من قيودها على القدس بدءاً بنصب الحواجز على الطرق وصولاً إلى ضرب المصلين بالهراوات والرصاص وقنابل الغاز وهم داخل المسجد. وعلى الرغم من استغاثات الفلسطينيين المتكررة واصلت إسرائيل مهاجمتهم داخل المسجد الأقصى والاعتداء عليهم بالضرب المبرح والاعتقال ومنع الطواقم الطبية من إسعاف المصابين منهم.

وأصدرت حماس على لسان قائد أركان جناحها العسكري تحذيراً لإسرائيل من استمرار الاعتداء على المصلين، لكن ذلك التحذير قوبل من إسرائيل لعدة أيام بآذان صماء، وبلغت الاعتداءات على المصلين وعلى أهالي الشيخ جراح ذروتها يوم 10 مايو/أيار بمحاصرة المصلين داخل المسجد وإلقاء قنابل الغاز والصوت المتفجرة عليهم من نوافذه. وفي اليوم التالي صدر نداء عن كتائب القسام يعطي مهلة لإسرائيل حتى السادسة مساء لترفع الحصار عن المصلين وتطلق سراحهم، وأعلن محمد الهندي المسئول السياسي في حركة الجهاد الإسلامي أن "سلاح المقاومة في غزة لا يمكن أن يظل صامتاً في معركة القدس".

إلا أن إسرائيل لم تستجب فنفذت المقاومة تهديدها بقصف القدس بعدد من الصواريخ التي انطلقت من قطاع غزة. ردت إسرائيل بقصف قطاع غزة فردت عليها المقاومة بقصف تل أبيب معلنةً شعار "إن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا". لم تبتلع إسرائيل هذه الصفعة التي تميزت بالجرأة ودقة التوقيت، وصعدت من غاراتها على مواقع وممتلكات ومنشآت فلسطينية في قطاع غزة، ولجأت إلى تدمير الأبراج السكنية ومنشآت البنية التحتية والبنوك والمصانع وبيوت المواطنين وحتى الشوارع بآلاف القنابل.

وأعلن وزير جيش إسرائيل بيني غانتس أن هذه هي فقط مجرد البداية. في الجهة المقابلة واصل الفلسطينيون من القدس وخارجها التضامن مع سكان حي الشيخ جراح، وامتدت حركة التضامن تلك إلى المدن والبلدات الفلسطينية داخل المناطق المحتلة منذ عام 1948، لتشمل الجليل والمثلث والساحل. واشتعلت الاحتجاجات عندما سقط شهيد فلسطيني في مدينة اللد برصاص مستوطن يهودي، وداهمت قوات الاحتلال بيوت الفلسطينيين في يافا وعكا وحيفا واللد واعتقلت نائب رئيس الحركة الإسلامية كمال الخطيب بعد الاعتداء على عائلته في كفر كنا. وهدد رئيس حكومة الاحتلال بنشر جيشه داخل المدن واعتبر وزير دفاعه أن انتفاضة فلسطينيي الداخل فيما يسمى (المدن المختلطة) أكثر خطورة من المواجهة الدائرة مع المقاومة في غزة.

ومنذ اليوم الثالث للمواجهات كثفت إسرائيل هجومها براً وبحراً وجواً ودمرت آلاف الشقق السكنية والبنوك والمحال التجارية والمنشآت التعليمية ورياض الأطفال وحتى المنتزهات والشوارع، وتجاوز عدد من قتلتهم في هذا الهجوم 100 شخص جلهم من المدنيين والأطفال، كما ناهز عدد الجرحى ألفين من كل الأعمار. وأعلن رئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي أن جيشه "سيفعل كل شيء لفرض الهدوء والأمن لفترة طويلة"، وهو تصريح (كلاشيه) يعني عسكرياً إعادة احتلال قطاع غزة أو تدميره بشكل يعيد المقاومة عشرات السنين إلى الوراء.

وأعلنت إسرائيل أنها ترفض وقف إطلاق النار، وأنها تحضر لاجتياح قطاع غزة، ورددت وسائل إعلام غربية منها وول ستريت جورنال وBBC خبراً نقلته عنها وسائل إعلام عربية مفاده أن إسرائيل بدأت هجوماً برياً لاحتلال قطاع غزة. لكن سرعان ما تبين أن هذا الخبر إشاعة أطلقتها إسرائيل في سياق الحرب النفسية، وبررتها وسائل إعلام عبرية بأن ما حدث كان ترجمة خاطئة لكلام المتحدث العسكري!

لكن برز في اليوم الرابع من هذه المواجهة عامل جديد في المعادلة هو اندلاع مظاهرات في الضفة الواقعة تحت سيطرة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية التي تمنع في العادة مثل هذه المظاهرات. ولم يحل مساء 14 مايو/أيار حتى كان يعم فلسطين مشهد لم يسبق له مثيل منذ النكبة الفلسطينية قبل ثلاثة وسبعين عاماً بالتمام والكمال. إذ تجاوبت الضفة الغربية مع غزة التي استجابت للقدس والتحمت مع فلسطينيي الداخل في الثورة ضد الاحتلال وسياساته ووجوده.

وتعتمد إسرائيل في حروبها على عنصرين هامين هما: الحرب النفسية والمعلومات الاستخبارية. وقد مارست مسألة الحرب النفسية في هذه المواجهة من خلال إشاعة اجتياحها لقطاع غزة برياً، لكنها فشلت بسبب تطور وسائل الإعلام على صعيد السرعة والتدقيق في المعلومة من جهة ومن جهة أخرى فاعلية إعلام المقاومة. وقد حققت إسرائيل في هذه المواجهة اختراقاً استخبارياً مكَّنها من اغتيال مجموعة مؤثرة من القيادات العسكرية للمقاومة، إلا أن دخول قطاع غزة بقوات عسكرية راجلة يحتاج إلى الحصول على معلومات من نوع خاص مثل طبيعة الخطة الدفاعية للمقاومة، وهو ما لم تحصل عليه إسرائيل كما يبدو.

وعليه فقد أمسى واضحاً أن جيش الاحتلال لا يضع في حساباته غزواً برياً لقطاع غزة، ويرجع ذلك إضافة إلى ما سبق إلى عدة أسباب أخرى على رأسها العبر التي استخلصها من عدوان عام 2014 وشجاعة المقاومين الفلسطينيين في القتال من مسافة صفر، ووقوع عدد من جنوده بين قتيل وأسير، واستخدام المقاومة لصواريخ كورنيت المضادة للدروع بفاعلية، ووجود شبكة أنفاق معقدة تسمح للمقاومين بالتحرك والعمل تحت الأرض، ووجود آلاف البنادق والقنابل اليدوية والعبوات المناسبة لحرب الشوارع. كذلك فإن تطوُّر صواريخ المقاومة وامتلاكها لطائرات مُسيَّرة انتحارية وقوة كوماندوز بحرية كلها اعتبارات تدفع جيش الاحتلال إلى الخشية من المفاجآت حال إقدامه على التوغل داخل القطاع المحاصر. كما يدفعه إلى استبعاد خيار التوغل البري في القطاع انكشاف قصور منظومة الدفاع الجوي المسماة القبة الحديدية، وهي صناعة إسرائيلية بعد أن سُوقت عالمياً بأنها عالية الفاعلية، وتواتر الأنباء عن خشية جنود الاحتلال من التعرض لمصير الأسرى الذين وقعوا في قبضة المقاومة في مواجهات سابقة.

على أن امتداد المواجهة مع الفلسطينيين إلى الضفة والداخل المحتل إضافة إلى صمود المقاومة في غزة وبروزها كقوة مؤثرة قادرة على إيلام إسرائيل سيعني أن إسرائيل -بعكس ما تعلن- سترضخ لوقف إطلاق النار بعد أن تكون المقاومة الفلسطينية قد نجحت بتثبيت القدس على أجندتها وبتوحيد كل الفلسطينيين وراء برنامجها وبإحياء قضية فلسطين عالمياً وإرغام الحكومات الغربية على التعامل معها من دون وسطاء وإحراج الأنظمة العربية المتحالفة مع إسرائيل، والأهم من كل ما سبق: كيّ الوعي الصهيوني بحقيقة أن لفلسطين شعباً يتوق إلى العودة إلى دياره والتحرر من الاحتلال.

TRT عربي