تابعنا
ولم تقف معاناة من ظلوا في الخرطوم على نقص الغذاء والدواء، ومعايشة أجواء الموت الذي يتربص بهم في كل لحظة برصاصات قاصدة أو دانات طائشة، فهناك معاناة أخرى لا تقل قسوة يعاني منها مَن لم يغادروا الخرطوم حتى الآن.

كشفت السلطات السودانية عن أن أكثر من نصف سكان العاصمة الخرطوم باتوا نازحين ولاجئين بسبب الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023، وكانت الخرطوم بؤرة اشتعالها الرئيسية.

وأدى اندلاع القتال بصورة عنيفة في العاصمة السودانية، واستمراره بذات الوتيرة الدموية لعشرة أشهر، إلى وقوع كثير من الضحايا وسط المدنيين بالعاصمة التي تتكون من ثلاث مدن (الخرطوم، وبحري، وأم درمان)، وفاقم اتساع رقعة الانتهاكات، من قتلٍ وسرقةٍ واغتصابٍ بحق المدنيين، إفراغ عدد من أحيائها من ساكنيها، فاضطروا إلى اللجوء والنزوح بحثاً عن ملاذات آمنة.

ملايين يفرون من الخرطوم

وقال مفوض العون الإنساني بولاية الخرطوم، خالد عبد الرحمن، إن عدد النازحين واللاجئين من ولاية الخرطوم وحدها وصل إلى نحو 6.5 مليون منذ اندلاع الحرب.

ويضيف عبد الرحمن لـTRT عربي، أن عدد سكان الولاية قبل اندلاع الحرب كان 11 مليوناً، ولكن بفعل الحرب نزح منهم نحو 5.5 مليون نسمة إلى ولايات السودان المختلفة، فيما لجأ مليون نسمة إلى دول الجوار.

ويشير إلى أنه "تبقّى فيها نحو 4.5 مليون نسمة يحتاجون للمواد الغذائية وغير الغذائية، والأدوية وبرامج الدعم النفسي والاجتماعي، ومواد تغذية للأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات، كما تشتد الحاجة إلى معينات لستر الجثث ودفن الموتى والقتلى".

ووصف عدد من النازحين واللاجئين الناجين من المعارك الضارية التي اتخذت من أحيائهم السكنية ميداناً لها، الخرطوم بأنها أصبحت "مدينة أشباح"، باستثناء محلية كرري بأم درمان التي بقي فيها فقط مَن عجزوا عن الخروج بعد نهب مدخراتهم وحصاد عمرهم من أموال وذهب وسيارات وأثاث، فعجز البعض منهم حتى عن النزوح واللجوء.

ولم تقف معاناة من ظلوا في الخرطوم على نقص الغذاء والدواء، ومعايشة أجواء الموت الذي يتربص بهم في كل لحظة برصاصات قاصدة أو دانات طائشة، فهناك معاناة أخرى لا تقل قسوة يعاني منها مَن لم يغادروا الخرطوم حتى الآن.

يقول الشيخ الأمين عمر الأمين، وهو من أبرز الشخصيات التي لم تغادر الخرطوم منذ بدء الحرب، إن مَن بقوا في الولاية أصبحت تلاحقهم الاتهامات بالعمالة لأحد طرفي القتال.

"الخرطوم تمرض.. لكنها لا تموت"

ويبيّن الشيخ الأمين في حديثه مع TRT عربي، أن من لم يخرج من الخرطوم يُضطرّ للتعامل مع الذين لديهم تأثير على الأرض ويفرضون الأمر الواقع سواء "بقوة القانون أو بقانون القوة".

ويُشرف الشيخ الأمين على دار دينية بإحدى مناطق الاشتباكات الساخنة في أم درمان، ويقدم فيها الغذاء والعلاج والدواء للمتأثرين بالحرب في الخرطوم.

ويضيف أنه رغم ما يقدّمه لخدمة مَن عجز عن الخروج من العاصمة، فإنه مع ذلك متَّهم بالعمالة لأحد الطرفين، مشيراً إلى أنه كثيراً ما يقولون له: "لو لم تكن عميلاً لما بقيت في الخرطوم".

واحتكرت الخرطوم -قبل الحرب- معظم الخدمات، كما ضمّت أغلب المرافق الاستراتيجية، واستأثرت بأكبر نسبة من الإيرادات والمؤسسات الحكومية والكثافة السكانية، وكانت محط أنظار السودانيين والحلم الذي يداعب مَن يريد الاستقرار وتلقّي الخدمات، ولكن بسبب الحرب انهار كل ذلك وتشرّد أكثر من نصف سكانها.

ومن غير أن يُعلَن رسمياً، أصبحت هناك عاصمة بديلة للخرطوم هي مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر أقصى شرقي السودان، بعدما لم تعد الخرطوم هي نفسها المدينة التي تَغنّى الشعراء كثيراً بجمالها الطبيعي الآسر.

وبعد الحرب أصبح هناك واقع جديد جعل إحدى النساء اللائي لجأن إلى مصر بعد نهب مدخراتها من مال وذهب وسيارة وأثاث منزلي، تقول إنها لن تعود مرة أخرى إلى مدينتها الخرطوم التي فقدت فيها الشعور بالدفء والأمان، فيما شقيقتها (نادية) التي وصلت عبر التهريب من الخرطوم إلى منطقة فيصل بالقاهرة، تقول لـTRT عربي إنها ستضمّد جراحها وتتناسى ما شاهدته من أهوال الحرب، وستكون في مقدمة العائدين لها بمجرد أن يتحقق السلام، مؤكدةً أن "الخرطوم تمرض، لكنها لم ولن تموت".

تفتيت سلطة وثروة الخرطوم

لرمزية ومركزية الخرطوم الكبيرة، رفع كثير من الحركات المسلحة في أطراف السودان السلاح للمطالبة بتفتيت سلطتها وثروتها.

ورأى البعض في محنة تدمير الخرطوم وإفراغها من سكانها منحة لإنعاش المدن والأقاليم الأخرى، لكنّ بحر إدريس أبو قردة، وهو سياسي سوداني بارز وقائد ميداني، يرى أن دمار العاصمة يعني خسارة لكل الولايات في الواقع.

ويضيف بحر -الذي عمل كذلك وزيراً للصحة، وكان معنياً بصورة مباشرة بتوزيع الخدمات الصحية- لـTRT عربي، أن "ما لحق بالعاصمة من دمار في مؤسساتها ومصانعها وبنياتها التحتية قد يعطي فرصاً لانتعاش مدن وولايات أخرى من ناحية آنيّة وشكليّة فقط، لكن من ناحية جوهرية، فإنه لا يوفر إمكانات للولايات لتنهض كما يعتقد البعض".

ورأى أبو قردة أن قضية التهميش ليست متعلقة فقط بالخدمات والتنمية، وإنما بامتلاك القرار وصناعة الأحداث، بما في ذلك توزيع الثروات وتحقيق تنمية متوازنة.

ويشير السياسي السوداني إلى أن الفائدة الحقيقية ليست في دمار العاصمة، وإنما في بقائها مع توزيع الموارد والسلطات والتنمية بالإمكانات الموجودة والمحتكَرة في العاصمة على الولايات، وهذا هو الذي يحقق الانتعاش والتنمية المتوازنة.

ويردف: "عندما نقول إن العاصمة كانت محتكرة القرار والتنمية، كنا نريد أن توزَّع على الولايات، لكن الآن لم تعد موجودة أصلاً، وإفراغ العاصمة من السكان دفع كثيراً من الكوادر إلى الخروج من البلاد وربما لن يعودوا".

عاصمة بديلة للخرطوم

بعد سيطرة قوات الدعم السريع على عدد من المرافق السيادية في العاصمة الخرطوم، بما فيها مباني القصر الجمهوري ومجلس الوزراء، ظهر كثير من النقاشات وسط المهتمين حول إمكانية وجود عاصمتين على الأقل، عاصمة تجارية، وأخرى إدارية كما هو الحال في بعض البلدان.

ويوضح حسن إسماعيل، وزير الحكم المحلي الأسبق في ولاية الخرطوم، أن ظروف الحرب أتاحت فرصة نادرة لعلاج وضعية الخرطوم بوصفها عاصمة بعد نزوح عدد كبير من سكانها وعودتهم إلى ولاياتهم الأصلية.

ويبيّن إسماعيل في حديثه لـTRT عربي، أن هذا الأمر يمهد الطريق لعمل كثير من الإجراءات التي كانت مستعصية قبل الحرب، مثل ضبط الوجود الأجنبي، ونقل المنظومات العسكرية من قلب الخرطوم إلى مواقع جديدة.

ويضيف أن ظروف الحرب تفتح الباب كذلك لنقل العاصمة من الخرطوم لموقع آخر داخل جغرافية الولاية بمعايير وشروط قاسية، تضمن ضبط الوجود البشري والاستثماري والخدمي والصناعي والتجاري فيها، حتى تصبح عاصمة سياسية وإدارية رشيقة تضمن عدم إنتاج أزمة الخرطوم العاصمة.

ويشير وزير الحكم المحلي الأسبق في الخرطوم، إلى أنه يميل لخيار نقل العاصمة من الخرطوم التي أصبحت مركزاً لإنتاج خطاب الرفض التاريخي لدولة 56 (الدولة السودانية الحالية التي نالت استقلالها عام 1956)، ونُسِج حولها الكثير من الظلال السياسية، وتأسست عليها خطابات المظلومية الاجتماعية.

TRT عربي
الأكثر تداولاً