تابعنا
في 22 مايو/أيار 1990 أُعلن عن قيام الوحدة اليمنية بين شطريه الشمالي والجنوبي، والتي مثلت حينها نقطة ضوء وحيدة لليمنيين والعرب جميعاً في طريق استعادة الوحدة العربية الشاملة.

كان إعلان الوحدة اليمنية حينها بمنزلة انتصار كبير على كثير من المعوقات والإحباطات التي مُني بها العقل السياسي العربي على مدى نصف قرن من قيام الدولة العربية الوطنية.

تمر علينا الذكرى الحادية والثلاثين للوحدة اليمنية، واليمن ذاته يمر بكثير من الإشكالات والحروب والتشظيات الكبيرة، التي كانت ارتداداً لثورة مضادة لثورة 11 فبراير 2011، تلك الثورة المضادة التي أحيت كل مشاريع ما قبل قيام الدولة اليمنية الوطنية بهويتها الجمهورية ونظامها الديمقراطي الوحدوي التعددي، ومن ثم عودة نظام الإمامة الزيدية شمالاً وحركات الانفصال والتشظي المناطقي جنوباً.

لكن مع كل هذا الوضع المعقد في اليمن، هل يمكننا أن نتحدث اليوم أن الوحدة اليمنية لا تزال تمتلك نفس ذاك البريق الأول أم فقدت بريقها؟ وهل كان الخطأ والفشل في الوحدة كفكرة أم في القائمين عليها؟ وهل لا تزال فكرة الانفصال اليوم بنفس زخمها الأول أم هي الأخرى فقدت بريقها؟ وما موقف اليمنيين المعنيين أولاً وأخيراً بالوحدة والانفصال، فضلاً عن موقف المجتمع الدولي والإقليمي منهما؟

لا شك أن ست سنوات من الحرب مضت وهذه السابعة في طريقها للنهاية، واليمن لا يزال يعاني ويلات حرب لم تنته إلا لتبدأ مرة أخرى، في متوالية من الحروب لا تتوقف. تلك الحروب التي كان اليمنيون على وشك مغادرة مربعها مع قيام ثورة فبراير السلمية، والانطلاق نحو أفق جديد للدولة اليمنية الحديثة، لكن الإقليم "اللاديمقراطي" بالجوار، والذي كان ينظر لكل حركة تغيير أنها خطر عليه، وبالتالي عمل على إعاقة وإجهاض هذه الثورة ودعم كل المشاريع اللاوطنية شمالاً وجنوباً في وجه اليمن الجديد، الذي كانت الوحدة اليمنية أهم عناوينه وأسسه.

ماذا عن سؤال الوحدة الآن؟

بالعودة إلى سؤال الوحدة اليمنية، ماذا عن هذه الوحدة اليوم، في ظل كل هذه المتغيرات والتعقيدات؟ وهل لا تزال الوحدة سؤال اللحظة والواقع أم قد تم تجاوزها والقفز فوقها؟ كل هذا يمكن ملاحظته سريعاً بإطلالة بانورامية على المشهد السياسي اليمني، وفي القلب منه ما يتعلق بالوحدة ونقيضها الانفصال ومشروعه.

فعلى مدى الأعوام العشرين الماضية كان سؤال الوحدة وجدواها هو سؤالاً ومحور النقاش السياسي العام، وقدم دعاة الانفصال سردية مظلومية جنوب اليمن وأجادوا في تقديمها وتفصيلها، حتى انفجار ثورة 11 فبراير، التي كان أهم دوافعها تكلس نظام صالح و إدارة اليمن بالأزمات وإنتاجها شمالاً جنوباً، وقد استطاعت السردية الانفصالية تبني قضية المظلومية السياسية لجنوب اليمن لكنها لم تقدم الإجابة الحقيقية والمنطقية عن سؤال ماذا بعد؟ و ظلت تقدم مجموعة تهويمات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تقدم تصوراً أكثر تماسكاً للحلول، وربطت الفشل بفكرة الوحدة ذاتها، لا بفشل الإدارة القائمة عليها، وهو تشخيص غاية في السطحية والغرابة معاً.

ومع تفجر ثورة 11 فبراير برهنت الثورة السلمية على مقولة إن النظام القائم هو أساس كل هذه الأزمات اليمنية، وإنه سبب منشأ قضية الانفصال أساساً بإدارته الفاسدة للبلد، وعبثه بكل فرص الانتقال بالبلاد نحو إصلاحات حقيقية تتجاوز لحظة ركام الأزمة والبناء عليها متوالية من السياسات الخاطئة، وكانت مقاربات ثورة 11 فبراير هي السردية الأكثر قدرة على وضع الحلول وتشخيص الأزمة جيداً، لولا الفشل الكبير الذي آلت إليه الثورة بفعل تحكم نخبة الأحزاب السياسية بمشهد الثورة تالياً، وتعطيل المسار الثوري وتحويله لما هو أشبه بأزمة سياسية انخرطوا فيها وتقاسموا كل أخطائها وخطاياها التي مهدت الطريق لانقلاب مليشيات الحوثي على مشهد الثورة.

بالمجمل يمكننا القول اليوم، إن سؤال الوحدة بدا أكثر إلحاحاً لعودة طرحه مجدداً في ضوء ما خلقه واقع الانفصال المفروض واقعاً من قبل أطراف مليشياوية مدعومة من من الإمارات، وخاصة قد فشل الانفصاليون في قيادة المناطق الجنوبية كالعاصمة عدن.

بمعنى آخر فإن سردية الانفصال اليوم تدفع نتائجها الكارثية بقوة نحو إعادة النظر في كل الشعارات المرفوعة في ما يتعلق بمقولتي الوحدة والانفصال مجدداً، انطلاقاً من الممارسات التي ارتُكبت باسم الانفصال، وأدت إلى ممارسات هي الأسوأ قطعاً ممَّا تم ارتكابه باسم الوحدة سابقاً، باعتبار أن أخطاء من كانوا يديرون الوحدة أخف ضرراً ممَّا يُرتكَب اليوم تحت اسم الانفصال.

تبقى الوحدة فكرة جديرة بالنقاش، ولكن في سياق غير هذا السياق، كفكرة لا جدال حولها وإنما الجدال حول فشل الوحدة بصيغتها القديمة، وإن أي حديث عن الوحدة يقتضي صيغة مختلفة وواقعاً آخر تماماً، وهو ما يعيد طرح فكرة الفيدرالية اليوم بشكل أكبر لتوافر كثير من المؤشرات الواقعية حولها، وفي المقدمة منها المجتمع الدولي والإقليمي الرافض للفكرة الانفصالية والمؤيد لبقاء الوحدة كياناً جامعاً لليمنيين، وهي بالأساس رغبة شعبية يمنية.

سؤال الانفصال مجدداً

كما ذكرنا سابقاً أن سؤال الانفصال قام على سردية المظلومية الجنوبية، وتأسس عليها خطاب ديماغوجي لم يقف عند مسألة المظلومية وضرورة إصلاحها، ولكن ذهب بعيداً لتخليق أسئلة أكثر تعقيداً في ما يتعلق بالهوية التاريخية والثقافية لجنوب اليمن بطريقة لا تستند إلى شيء من علم أو منطق، بقدر استنادها إلى أوهام وخطاب شعبوي بالغ السوء والسطحية.

وحول سؤال الانفصال وإلى أي مدى يمكن الحديث عن جدوى هذا السؤال، أعتقد أن هذا السؤال حظي باختبار حقيقي على أرضية الواقع، هو أن الحامل لهذا المشروع سقط عند أول اختبار، من خلال فشله في إدارة مدينة كعدن تزخر بكل مقومات النهوض والاستقرار، لكنه فشل وفرط بفرصة ذهبية لإثبات جدوى قضية الانفصال، وكشف للناس أن فكرة الانفصال ليست فكرة مثالية بقدر ما هي فكرة وظيفية لتحقيق أهداف مموِّلها.

فضلاً عن ذلك، كان ثمة سردية انفصالية تقوم على مقولة إن جنوب اليمن محتل، وإن كل شيء فيه تمت مصادرته ونهبه من قبل نظام صالح، الآن بعد عودة كل شيء يبرز سؤال جوهري وهو أين تلك الممتلكات المنهوبة لدى نظام صالح السابق؟ وأين هي الآن؟ ومَن وراء كل ما يجري من فساد لا حدود له في عدن؟ ولماذا لا يتم الحديث عن هذا الموضوع بالذات، وهو موضوع جوهري في سردية الانفصال؟ هذا ملمح بسيط عن نوعية الحامل السياسي لمشروع الانفصال، وأنه أكثر فساداً وفشلاً ربما من نظام صالح نفسه.

هذا الفشل الذريع لمشروع الانفصال دفع الناس اليوم مجدداً إلى سؤال الوحدة، وإن بصيغة أخرى وهي إن كان هذا هو مشروع الانفصال الذي خرج الناس من أجله، فمن حق الناس أن تقول رأيها فيه، وبمقارنة بسيطة بين فشلي مشروعي الوحدة والانفصال، فإن الناس ستجد فشل الوحدويين أهون وأقل بكثير من فشل وعبثية حاملي مشروع الانفصال الموعود، وخاصة في ظل تعاظم تناقضات البنية السياسية للقوى الاجتماعية في داخل الجنوب اليمني ذاته.

لهذا يرى الناس اليوم أن الوحدة لم تكن سيئة بالقدر الذي قيل عنها، وأن سبب سخط الناس هو من القائمين عليها لا على فكرة الوحدة لذاتها، ولذا يرون أن بقاء اليمن موحداً ووفقاً لأي صيغة غير مركزية هو المشروع الأقرب إلى المنطق والواقع، في ظل حالة التشظي وفي حالة الاستقطابات التي تسعى لبقاء اليمن عالقاً بين اللاسلام واللاحرب واللادولة أيضاً.

لذا يبرز اليوم من بين كل الأفكار المتناقضة والمتصارعة مشروع اليمن الاتحادي كخيار الضرورة، ليحفظ كيانية الدولة والجغرافية والشعب الواحد وفقاً لصيغ أكثر انتفاحاً كالفيدرالية، وأن الوحدة كفكرة لا علاقة لها بفشل القائمين عليها، وخاصة أن كل المؤشرات تؤكد لليمنيين يوماً بعد يوم أن كل الجماعات المسلحة كالحوثي المسيطرة على العاصمة صنعاء، وجماعة الانفصال المسيطرة على العاصمة عدن، هي جماعات عنفية من خارج سياق ثقافة الدولة والنظام والقانون، لا يمكن التعويل عليها في بناء مشروع وطن لكل اليمنيين.

وختاماً، تبقى مسألتا الوحدة والانفصال مسألتين سياسيتين يدور النقاش حول جدواهما من زاوية سياسة، وهي منفعة الناس وما يحقق مصالحهم وأمنهم واستقرارهم، كان بالوحدة أو الانفصال، فلا الوحدة إيمان ولا الانفصال كفر، والعكس، وإن الواقع وحده من يمكنه أن يجيب عن صدقية ذلك، وخاصة بعد الفشل الكبير لحاملي مشروع الانفصال اليوم، ممَّا يبقي الباب مفتوحا أمام اليمنيين لمحاكمة الأفكار على أرضية الواقع، وليس لمجرد رفعها كشعارات مجردة.

TRT عربي