تابعنا
يظهر بجلاء أن الأوضاع في المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل تشهد تصاعداً في التوتر والتمييز، سواء على مستوى الاعتقالات التعسفية أو التحديات التي تواجه الفلسطينيين في سوق العمل

فاقمت الحرب الإسرائيلية على غزة من التحديات التي تواجه المجتمع الفلسطيني في الداخل، خصوصاً مع فرض حالة الطوارئ التي سمحت بمساحة أوسع لملاحقة الفلسطينيين والتضييق عليهم وتحديداً في سوق العمل التي يعاني فيها الفلسطيني الحصول على فرص متساوية في التوظيف والترقي.

أصبح الشارع الإسرائيلي أكثر تطرفاً بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بعد أن سخّر كثيرون من الإسرائيليين قدراتهم المادية والمعنوية والتكنولوجية للتحريض على من ينشر الرواية الفلسطينية، وأقام عددٌ من المطورين موقعاً إلكترونياً لنشر أسماء الأشخاص الذين يشاركون محتوى "مناهضاً" لإسرائيل أو داعماً للقضية الفلسطينية مع أماكن عملهم والبريد الإلكتروني للشرطة أو الجامعة أو المؤسسة التي يعملون بها لإرسال رسائل ضغطٍ إلى هذه الشركات تطالب بإقالتهم بحجة معاداتهم للسامية.

الموقف السياسي شرطاً للعمل

في حديثها مع TRT عربي تقول رنا -اسم مستعار- إنها أصبحت أكثر حذراً في التعامل مع زملائها في العمل الذين لا يُخفون نظرات الشك والاتهام منذ بداية الحرب. انضمّت رنا للعمل مهندسة في إحدى كبرى الشركات في مدينة تل أبيب، بعد أن أنهت دراستها الجامعية بامتياز، وتشير رنا إلى أن العمل من المنزل في بداية الحرب أسهم في تخفيف التواصل "المباشر مع الموظفين الآخرين، وكان ذلك كفيلاً بتخفيف حدة التوتر، ولكن بعد فترةٍ قصيرة عدت إلى العمل من مكاتب الشركة في تل أبيب، وكان التعامل مع حقيقة أن بعض الموظفين الإسرائيليين قد التحقوا بقوات جيش الاحتياط للقتال في غزة صعباً عليّ، فيما كان يوجِّه لي بعض الموظفين الآخرين أسئلة غريبة وبعضها ملغوم كأنهم يطلبون منّي أن أتبنى موقفهم كإسرائيليين بشكلٍ واضح".

وتضيف رنا خلال حديثها مع TRT عربي: "وبسبب حساسية الوضع فضّلت عدم الخوض في هذه الحوارات، ولكنَّ ذلك لم يكن كفيلاً بدرئهم عنّي، حتى إن أحد المسؤولين في جلسةِ عملٍ كان من المفترض أن تناقش تقدمي المهني في الشركة، سألني عمّا إذا كنت أدعم الجيش الإسرائيلي في الحرب على غزة".

رنا ليست الوحيدة، فكثيرون من المتخرجين في المعاهد والجامعات الإسرائيلية الذين يبحثون عن عملٍ أو فرصٍ للتدريب المهني يواجهون تحديات كبيرة، فأغلبهم لا يُسْتَدْعَوْن لمقابلاتٍ، وإذا استُدعوا يواجهون أسئلة مجحفة وغير متعلقة بقدراتهم المهنية، حتى إن إحدى الباحثات عن فرص عمل -فضّلت عدم ذكر اسمها- قالت لـTRT عربي: "كنت أودّ لو أنني قلبت الطاولة على رؤوسهم عندما سُئلتُ: لماذا لا يتجند الفلسطينيون في الجيش الإسرائيلي؟".

حسب مركز عدالة الحقوقي، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول تقدّمت السلطات الإسرائيلية بأكثر من 100 لائحة اتهام صنّفتها مخالفات تعبير، وفقاً لقانون مكافحة الإرهاب. ووفقاً لتقرير قدمته الشرطة الإسرائيلية للجنة الدستورية في الكنيست، فُتح 394 تحقيقاً خلال هذه الفترة بشأن هذه المخالفات، أي ما يزيد على 5 أضعاف مقارنةً بالسنوات الخمس السابقة.

وأصدرت النيابة العامة قراراً بطلب تمديد اعتقالٍ لجميع المشتبه بهم حتى نهاية الإجراءات القانونية بحجة أن المنشورات "جادة" و"ترتبط بالأحداث ارتباطاً مباشراً".

هؤلاء الفلسطينيون الذين يواجهون هذه التهم هم مدرسون و أطباء وموظفون في شركاتٍ مختلفة، ما أدى إلى خسارة بعضهم مكان عملهم. المحامية المختصة بالتشغيل، عالية زعبي، تقول إنها رافقت عشرات من الموظفين والموظفات الذين واجهوا هذه القضايا على خلفية آرائهم السياسية، وتقول زعبي لـTRT عربي: "إن بعض العمال طُردوا من عملهم فقط لأنهم عرب".

وتتابع: "إن استهداف العمال العرب ليس إلا محاولة جبانة إضافية لإسكاتنا كفلسطينيين في الداخل، لا سيما أن بعض المشغلين حاول استغلال الاعتقالات التعسفية التي تعرض لها بعض العاملين والعاملات مؤخراً لقمعنا وزيادة ظروف العمل سوءاً. علينا عدم السكوت عن هذه الممارسات وملاحقة كل من يرتكبها قضائياً".

ميس (اسم مستعار) معالجة وظيفية في روضة أطفال خاصة بالمصابين بطيف التوحد في حيفا، تعمل بشغف كبير لمساعدة هذه الفئة من الأطفال. لكن منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تَغيَّر كل شيء. أُوقفت ميس عن العمل لفترة طويلة بعد ملاحقتها قضائياً على خلفية مشاركتها مقطع فيديو يَظهر فيه أطفال من غزة، عدَّته إحدى زميلاتها الإسرائيليات تحريضاً ودعماً للإرهاب.

تقول ميس لـTRT عربي: "كانت فترة صعبة جداً، لمدة أسبوعين على الأقل كنت أخاف الخروج من المنزل، فقد كانت تصل إليَّ رسائل تهديد يومية".

تقدمت ميس بشكوى للشرطة الإسرائيلية خوفاً على حياتها، لكنّ التحقيق معها لم يكن لائقاً، صودر هاتفها دون أي حجة قانونية. لم تستسلم ميس للضغوط، وناضلت قانونياً للعودة إلى العمل. وعندما أمرت المحكمة بإعادتها، واجهتها زميلتها الإسرائيلية قائلة: "غير مرحَّب بكِ هنا، ولن تحظي بأي تعامل جيد، حتى كلمة صباح الخير لن تسمعيها".

تواجه ميس اليوم مضايقات من زملائها وبعض أولياء الأمور، الذين يتهمونها بعدم المهنية دون أي دليل. تقول ميس: "لا أظن أن الحياة ستعود إلى طبيعتها، الأجواء مشحونة جداً، وهناك صعوبة كبيرة في التعامل مع هذا الوضع".

فلسطينيو الداخل والسوق الإسرائيلية

وهنا قد يطرح البعض تساؤلاً مشروعاً: لماذا يريد الفلسطينيون العمل في الشركات الإسرائيلية؟

وعلى الرغم من أن الإجابة قد تبدو واضحةً فإن كثيرين يجهلون الوضع في الداخل؛ فالشركات الإسرائيلية هي الأكبر والأكثر قدرةً على تشغيل موظفين جدد ومتدربين في القطاع الخاص وبسبب الفجوة الاقتصادية الكبيرة بين المجتمعين العربي الفلسطيني والإسرائيلي، فإن نسبة الشركات العربية التي تستطيع تشغيل أكثر من خمسين موظفاً تقدَّر بنسبة 0.7% من مجمل الشركات التي تصنَّف في إسرائيل على أنها "كبيرة"، حسب معطيات دائرة الإحصاء المركزية في إسرائيل.

وعلى خلفية هذه المعطيات، فإنه لا مهرب من توجه العرب في الداخل للعمل في السوق الإسرائيلية التي باتت لا تخجل بالمجاهرة بالعنصرية تجاه العرب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

التحديات التي يواجهها الفلسطينيون في سوق العمل ليست جديدة، فعلى الرغم من تقدمٍ ملحوظٍ في نسبة العرب الفلسطينيين المشاركين في سوق فإن نسبة العاطلين عن العمل بلغت 38.8%، حسب التقرير الأخير لوزارة العمل الإسرائيلية (2023)، ما قد يفسر وجود 39% من العائلات العربية مصنفة تحت خط الفقر.

بالنسبة إلى إسرائيل، فإن تصنيفها العالمي مع الدول المتقدمة والمتطورة ضمن منظمة "OECD"، هو أمرٌ تستمد منه قوةً كبيرة لكي تبيّض صورتها أمام المجتمع الدولي، فعلى مدار سبعة عشر عاماً كثفت إسرائيل جهودها للانضمام الى هذه المنظمة لتكون في الصف الأول مع الدول الديمقراطية المتطورة كأستراليا وفنلندا وفرنسا وغيرها من الدول المشاركة في المنظمة.

وقد وُجهت لإسرائيل انتقاداتٍ لاذعة على خلفية سياساتِها تجاه المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، الأمر الذي كان السبب الرئيسي لتغيير بعض سياساتها من أجل تحسين مكانة المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل وضخ ميزانياتٍ لسد الفجوة بينه وبين المجتمع الإسرائيلي.

لم تنجح حتى الآن جهود معالجة إرث سنوات من السياسات العنصرية تجاه العرب الفلسطينيين مواطني الدولة، بل ازداد الوضع سوءاً في المجتمع العربي خصوصاً في السنوات الخمس الأخيرة التي شهدت تصاعداً في مظاهر مدمرة مثل انتشار السلاح غير المرخص.

يظهر بجلاء أن الأوضاع في المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل تشهد تصاعداً في التوتر والتمييز، سواء على مستوى الاعتقالات التعسفية أو التحديات التي تواجه الفلسطينيين في سوق العمل. إن هذه الظروف تعكس واقعاً مؤلماً يجب التصدي له بشكل جاد وفوري من المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، من أجل تحقيق العدالة والمساواة وإنهاء الاضطهاد والتمييز ضد الفلسطينيين في إسرائيل.

إن استمرار هذه الحالة يُنذر بتفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، مما يستدعي اتخاذ إجراءات فعالة للحد منها والعمل نحو بناء مستقبل أفضل وأكثر عدالة للجميع.

TRT عربي