تابعنا
مرّت خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) بين إيران والمجموعة الدولية في فيينا في 14 يوليو/تموز 2015 بمراحل طويلة من التفاوض والتلويح بالانسحاب والضغط الدبلوماسي.

رافق ذلك كله مقايضات أمريكية كثيرة لقبول الاتفاق والعمل به بعد تنازلات إيرانية تفضي إلى سلوك هادئ في المنطقة، والتوقف عن مساعدة أذرعها في دول الإقليم الملتهبة، لتشمل هذه الضغوطات عقوبات اقتصادية خانقة واغتيالات جنرالات عسكريين إيرانيين، حتى انسحاب الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب من الاتفاق في 2018.

دفعت إيران ضريبة كبيرة لهذه العقوبات قادت إلى ظروف اقتصادية خانقة، فشهد الشارع هبّات شعبية ضد غلاء الأسعار وظروف المعيشة الصعبة، وانقسم الداخل الإيراني إلى مُعارِض لسياسة روحاني الخارجية التي عادت على البلاد بالضرر والعزلة، باعتباره لم يتنازل عن الاتفاق النووي كما روّج خصومه المحافظون الذين رفضوا الحوار مع الغرب، واتهموا روحاني بتقديم تنازلات تخدش سيادة الجمهورية الإيرانية الإسلامية، وبعد قمع المظاهرات الشعبية وارتفاع صوت المعارضة الداخلية من خصوم روحاني جاء قانون قيصر الذي يفرض عقوبات على نظام الأسد في سوريا وحليفته إيران، وشهدت البلاد تفجيرات وحرائق في مواقع عسكرية وصناعية في إيران حتى وصل الأمر إلى اغتيال أحد أهم علماء إيران النووين محسن فخري زاده بعملية دقيقة وباستخدام أحدث التكنولوجيات.

جذور وتطورات الاتفاق النووي

شكّل الاتفاق النووي رأس هرم الحضور الإيراني دوليّاً، وتسعى إيران للحفاظ عليه بمختلف القنوات الدبلوماسية، وأحياناً بالضغط على دول الإقليم والرأي العالمي، باستخدام أذرعها في مناطق النفوذ وحلفائها.

وتضاعفَ حِملُ العقوبات على إيران بعد خروج إدارة ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وسعت الولايات المتحدة لإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران، المنتهية في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2020، إلا أنها لم تتمكن من هذا بضغطٍ دولي.

يرى محللون وباحثون متخصصون في الشأن الإيراني، أن إيران تمكنت من تدويل اتفاقها النووي، وقادت معركة دبلوماسية متكاملة للحفاظ عليه، وذهب كثر إلى أن إيران استطاعت أن تجعل واشنطن معزولةً سياسياً إزاء هذا الملف، من خلال تحركات الخارجية الإيرانية للحفاظ على هذا الاتفاق، الأمر الذي يستبعد تنازل إيران عن الاتفاق النووي بصرف النظر عن الطريقة التي تحفظه فيها.

ومنذ بداية الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، تتابع إيران سعيها نحو إعادة إلزام واشنطن الاتفاق النووي، من خلال جهود الخارجية الإيرانية في إقناع الأوروبيين والوكالة الدولية للطاقة الذرية التي زارت إيران، وأجرى مديرها العامّ رافائيل غروسي مباحثات مع روحاني، ورئيس منظمة الطاقة الذرية علي أكبر صالحي ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، أفضت إلى الوثوق بإيران بعد أن بينت حسن نيتها.

وقبل أيام من تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، تجدّدُ إيران مطالبها برفع العقوبات عنها، مهددةً بوقف العمل بالبروتوكول الإضافي الملحق بالاتفاق النووي إذا لم تتوقف تلك العقوبات.

وهذا التهديد واحد من 9 خطوات تصعيدية أقرّها البرلمان الإيراني ضمن قانون للرد على اغتيال العالم النووي الإيراني البارز محسن فخري زاده قرب طهران أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

الحالة الراهنة مهيأة لإلغاء الاتفاق

في الأيام الأخيرة، بدأت إيران تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء 20% في منشأة فوردو النووية، وهو مستوى التخصيب الذي كانت عليه قبل إبرام الاتفاق، وسبّب هذا التصريح إرباكاً في الساحة الدولية، وعبّر عنه الاتحاد الأوروبي ببيانٍ مشترك قال فيه إن "شروع إيران في تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 20%… تطوُّر في غاية الخطورة ومبعث قلق شديد".

وجاء الردّ الإيراني على لسان علي أكبر ولايتي، مستشار مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، بأن "إيران تطالب بإلغاء آلية إعادة فرض العقوبات الواردة في الاتفاق النووي المبرم عام 2015، في حال أُجريَت أي محادثات دولية جديدة".

وتزامناً مع القلق الأوروبي من قرار إيران رفع نسبة نقاء التخصيب، دعا وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى منع إيران من تخصيب اليورانيوم، مطالباً القوى الدولية بأن لا تسمح لإيران بذلك وبأي مستوى، معتبراً هذا القرار محاولة إيرانية جديدة لابتزاز المجتمع الدولي من خلال برنامجها النووي، حسب تعبيره.

وكان ردّ المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي على كلّ ردود الأفعال إزاء قرار رفع نسبة نقاء التخصيب، بأن إيران لا تستعجل عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، في خطاب بثّه التليفزيون الإيراني، وقال فيه: "لا نرى عودة الولايات المتحدة للاتفاق أمراً عاجلاً، ولنا مطلب منطقي هو رفع العقوبات".

من جهته، يرى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن بلاده "غير مجبرة على قبول أي شروط مسبقة تفرضها الولايات المتحدة لرفع العقوبات"، مشيراً إلى رغبة جو بايدن في رفع العقوبات عن إيران والعودة إلى الاتفاق النووي إذا التزمته بشكل جادّ.

ويرى محللون إيرانيون أن المناخ السياسي الحاضر ليس مؤهلاً للوصول إلى تفاهم يُرضِي أطراف الاتفاق النووي، ذلكَ أنَّ التحركات العسكرية والتصريحات التي تُصدِرها طهران وواشنطن لا تنبئ بمسقبل متيسر للاتفاق النووي.

وفي الأسبوع الماضي قالت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة، في رسالة موجهة إلى رئيس مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، إن الولايات المتحدة أرسلت أسلحة متطورة إلى المنطقة، الأسابيع الماضية، وقامت بأعمال استفزازية، مثل تحليق القاذفات الاستراتيجية بعيدة المدى فوق مياه الخليج، وتحدثت تقارير صحفية أغضبت طهران عن تحركات لغواصة إسرائيلية باتجاه المنطقة.

من جهتها، ردت طهران على ما وصفته بـ"الاستفزاز" العسكري،بمناورات عسكرية"غير تدريبية" في بحر عمان، أطلقت فيها صواريخ بعيدة المدى بنجاح، وتشمل المناورات استخدام بارجتَي "مكران و"زره" اللتين تحملان منصات لإطلاق الصواريخ.

وتشمل هذ المناورات أكبر مناورات للطائرات المسيَّرة بمشاركة القوى الأربع في الجيش الإيراني في منطقة سمنان العامة شمال شرقي إيران بالقرب من المناطق الحدودية، واستخدم الجيش الإيراني في هذه المناورات، مئات الطائرات المسيَّرة من صنوف مختلفة، مثل "مهاجر" و"أبابيل" .

وحول رأي إيران في فرض العقوبات أو إلغاء الاتفاق برمّته، قال المحلِّل الإيراني المتخصص في العلاقات الأمريكية الإيرانية والاتفاق النووي علي أكبر داريني، في تصريحات لـTRT عربي، إن "إيران ستواصل العمل على ملفها النووي سواء كان هذا ضمن الاتفاق أو من دونه، لأن إيران تنفّذ سياساتها، ولا أحد يملي عليها ما تفعل أو يضعها في خانة المُجبَرة".

وعن المرحلة القادمة التي يقودها الرئيس المنتخب جو بايدن، يرى داريني أن إيران ستلتزم كل تعهداتها إذا رفعت إدارة بايدن العقوبات عن إيران، وأعادت التزام بنود الاتفاق النووي كما كان قبل انسحاب إدارة ترامب منه، وفي حال لم تُرفع العقوبات فلن ترجع إيران إلى الاتفاق بأي صورة، ولن تعيق الولايات المتحدة أو الأوربيون مشروع إيران عن مواصلة الطريق، وفق داريني".

وفي تصريحات خاصة لـTRT قال الباحث والمحلل السياسي الإيراني حميد عظيمي، المتخصص في الشؤون العربية ومدير مركز مرصاد للدراسات الاستراتيجية: "إذا كنا نريد إعادة مناقشة الاتفاق النووي، ففيمَ كانت الحاجة إلى أن نصبر على عقوبات إدارة ترامب أربع سنوات؟".

ويرى عظيمي أن الخيار الأفضل لإيران هو إبقاء ملفّ الاتفاق على حاله معلَّقاً، وعدم مناقشته، لأن السنوات التي رزحت إيران فيها تحت العقوبات لم تكن سهلة على الإيرانيين، وفي حال ظلّ الأمر معلَّقاً فنحن نتقي شرّ عقوبات دولية جديدة. وحول غضب الأوروبيين من قرار كهذا قال عظيمي: "نستطيع تدارك غضبهم بخفض مستوى التزام الاتفاق، مع التوسع في النشاطات النووية".

TRT عربي
الأكثر تداولاً