تابعنا
ألغت أعلى محكمة في تركيا يوم الجمعة 10 يوليو/تموز قراراً سابقاً أدَّى في عام 1934 إلى تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف وفرض قيوداً على أداء الصلوات في المكان.

كان مجلس الدولة التركي قد تلقّى قبل ذلك بأسبوع دفوعات من محامين يدفعون بإلغاء قراراً لمجلس الوزراء يعود لعام 1934 تسبب في تحويل المعلم التاريخي إلى متحف.

لجأ المحامون في القضية إلى الميثاق المؤسس لآيا صوفيا نفسه، والذي يُعَد ملكية خاصة للسلطان محمد الفاتح، يُحظَر بموجبه إدخال أي تغييرات من أي نوع على الوقف أو أرضه أو طريقة استخدامه.

يقول مارك جيفرسون، المحلل بمعهد عمران للدراسات الاستراتيجية: "يكمن في القلب من هذه القضية المثيرة للجدل محاولة لاستعادة الحريات الدينية".

ويضيف: "ضيَّقت تركيا الحديثة في بدايتها على الممارسة الدينية وارتداء الملابس الدينية والتعبير عن الدين، وكانت واحدة من السياسات التي شرعتها هي حرمان مجتمعها المسلم المتدين من مكانٍ كان يمثل موقعاً للصلاة يتمتع برمزية بالغة طوال قرابة خمسة قرون".

ويشير حسن عمران، وهو محام دولي تحدث إلى TRT قبل حكم المحكمة: "يجدر التذكير بـ(إعلان عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحماية سيادتها واستقلالها)، الذي تبنَّاه القرار رقم 2131 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 ديسمبر/كانون الأول 1965، والذي شهد التصديق عليه بالإجماع".

ويضيف: "وسواء كان حكم المحكمة لصالح الإلغاء أو ضده، فإنَّ احترام سيادة القانون أمر أساسي. ولهذا، يجب أن يحافظ القضاء على استقلاليته بعيداً عن أي اعتبار سياسي".

الحفاظ على حرية العبادة

كانت السلطات دوماً تعلن أنَّه سيجري الاستمرار في الحفاظ على ملامح آيا صوفيا وحمايتها، وهي موقع تراث تاريخي وثقافي مهم يعود إلى القرن السادس الميلادي، وأنَّه سيبقى دوماً مفتوحاً أمام الجمهور بنفس الطريقة التي يُفتَح بها الجامع الأزرق أمام الزائرين والسياح من كل الطوائف والأديان.

وواظب المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن على القول بأنَّ السماح بأداء الصلوات في آيا صوفيا لن يُجرِّد المكان من هُويته.

وقال قالن: "ستستمر تركيا في الحفاظ على الأيقونات المسيحية الموجودة هناك، تماماً مثلما حافظ أجدادنا على كافة القيم المسيحية".

وقال وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو في وقتٍ سابق يوم الخميس الماضي 23 يوليو/تموز: "وضعية آيا صوفيا ليست مسألة دولة، بل مسألة سيادة وطنية لتركيا".

وأضاف المتحدث باسم الخارجية التركية حامي أقصوي، إنَّ "آيا صوفيا، شأنه شأن كل المعالم الثقافية على أرضنا، هو ملكٌ لتركيا".

وفي ظل الماضي الثري ومتعدد الأوجه لآيا صوفيا، تُثار تساؤلات بشأن أهميته وما يعنيه بالنسبة لتركيا. فحسب البعض، تأسس المكان ككنيسة. وبالنسبة لآخرين، جعل فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح عام 1453، وما تلاه من حفاظ على الكاتدرائية القديمة وترميمها، المكان حجر أساس للثقافة الوطنية والتراث التركي الحديث.

اقرأ أيضا:

وفي حين وُجِّهَت بعض الانتقادات لإلغاء القيود المفروضة على إقامة الصلاة في المعلم، يقول عالِم أنثروبولوجيا الآثار بجامعة سطيف خالد ياسين إنَّه لا يوجد أي شيء جديد بشأن الأمر برمته.

ويقول في مقابلة مع TRT: "آيا صوفيا جزء من قصة أصل تركيا. بدونه لن تكون هناك تركيا ولا إسطنبول. ".

ويضيف: "على الأرجح ستؤدي ارتباطاته بالعديد من الأديان إلى إثارة الحساسيات، لكن إذا سُمِح بدخول المصلين والزائرين مثلما كان مسموحاً لهم من قبل، سيكون هذا أكثر مما فعله الآخرون".

وعند سؤاله عن مقصده، ابتسم وتابع.

ويفصّل قائلاً: "لا يعلم معظم الناس أنَّ كاتدرائية القديس بطرس، في الفاتيكان نفسها، مبنيّة على العديد من المعابد الرومانية. وحين طردت إسبانيا المسلمين في محاكم التفتيش، حوَّلت جامع قرطبة الكبير إلى كاتدرائية، ومُنِع المسلمون من الصلاة فيه حتى اليوم".

ويضيف: "دُمِّرَت الكثير من المساجد بشكل تام أو حُوِّلَت إلى كنائس. وعلى نفس المنوال، حين ذهب الإسبان إلى العالم الجديد، حوَّلوا أيضاً أماكن العبادة إلى كنائس. وكاتدرائية مكسيكو سيتي مبنيّة على أطلال معبد آزتيكي".

والقائمة تطول.

ويردف: "كانت كنيسة النبي إلايجا (إيليا) في مدينة سالونيك باليونان مسجداً سابقاً. وفي بلغاريا، حُوِّلَت كنيسة القديسين السبعة في صوفيا من مسجد إلى كنيسة. وفي كرواتيا أيضاً، حُوِّلت ثلاث مساجد عثمانية إلى كنائس. وشهدت فيتنام تدمير الفرنسيين لدور العبادة البوذية والطاوية لبناء كاتدرائية سانت جوزيف".

ويضيف: "حكمت تركيا بالسماح للناس بأداء الصلوات في آيا صوفيا. وبالكاد يمكن مقارنة هذا بالاعتقال في جامع قرطبة الكبير بسبب قول أي شيء باللغة العربية أو عن تحويله إلى كاتدرائية. غير أنَّ آيا صوفيا يقف منتصباً اليوم بسبب جهود تركيا لترميمه".

ميلاد إسطنبول

كُتِب في وقفية مؤسسة السلطان محمد الفاتح، على قطعة من جلد الغزال المحفوظ جيداً يبلغ طولها 66 متراً: "أي شخص غيّر هذه الوقفية التي حولت آيا صوفيا إلى مسجد، أو بدّل إحدى موادّها، أو ألغاها أو حتى عدّلها، أو سعى لوقف العمل بحكم الوقف الخاص بالمسجد من خلال أي مؤامرة أو تأويل فاسق أو فاسد، أو غيّر أصله، واعترض على تفريعاته، أو ساعد وأرشد من يفعلون ذلك، أو ساهم مع من فعلوا مثل هذه التصرفات بشكل غير قانوني، أو أخرج آيا صوفيا من كونه مسجداً، أو طالب بأشياء مثل حق الوصاية من خلال أوراق مزوَّرة، أو سجّله (المكان) في سجلاته عن طريق الباطل أو أضافه إلى حسابه كذباً، أقول في حضوركم جميعاً إنه يكون ارتكب أكبر أنواع الحرام واقترف إثماً ... فمن غيَّر شيئًا من شرائطه أو بدَّل قانونًا في ضوابطه ويسعى إلى إبطاله وتبديله، وقصد في نسخه وتحويله بتأويل فاسد وأباطيل مزخرفة … فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".

اقرأ أيضا:

وبعد فترة وجيزة من فتحه للقسطنطينية وإعادة تسميتها مدينة إسطنبول، أدَّى السلطان أول صلاة جمعة هناك. وتتحدث الروايات المُتناقلة عن قصة سلطان شاب يُقال إنَّه جثا على ركبتيه في صلاة شكرٍ عند دخوله إلى الكاتدرائية القديمة.

وبعد مدة وجيزة، أسس وقفاً لرعاية "الجامع الكبير" الجديد وإدارته، بدخل سنوي يبلغ 14 ألف قطعة ذهبية سنوياً لترميم هذا الأثر الحضاري وتوسعته والحفاظ عليه. وكان هذا الوقف مهماً لا لأنه مستند إلى فتوى فحسب، ولكن من الجانب الروحاني أيضاً.

إذ يحظر التشريع الإسلامي تغيير ميثاق أي منشأة أو وقف أو غرضهما دون استشارة المالك وموافقته، وهو مبدأ أصبح معمولاً به في القانون الحديث.

واحتراماً لمواطني المدينة والإمبراطورية الذين ينتمون لأديان متعددة في المدينة، أمر السلطان محمد الثاني بإضافة زخارف جديدة لم تفسد التفاصيل الداخلية السابقة في آيا صوفيا.

وفي ذلك الوقت، بلغ عمر بناء آيا صوفيا 900 عام بالفعل، وتعرض لحريقين وثلاث زلازل على الأقل، تسبب أحدها في انهيار القبة بأكملها. وتعرض للنهب والتدنيس خلال الحملة الصليبية الرابعة على أيدي الصليبيين.

التاريخ المدفون

وبعد فتح إسطنبول، سرعان ما تحول بناء آيا صوفيا إلى أيقونة ثقافية، يحمل تراثاً غنياً لتركيا اليوم. وسمي "الجامع الكبير"، وقد بذلت كل الجهود الممكنة للحفاظ عليه وتحسين التصميم المعيب هيكلياً الناتج عن تشييد قبة مركزية ثقيلة شكلت ضغطاً على البناء.

وأضيفت الدعامات إلى جوانب آيا صوفيا لمنعها من الانهيار في عهد مراد الثالث على يد المهندس المعماري الشهير سنان الذي سيستمد إلهامه من هذا الصرح القديم ليدمج بين طرازه والفن الإسلامي وعلم الجمال في سلسلة من الجوامع الكبرى.

ونفذت سلسلة من الملحقات شملت مدرسة، ونافورة خلال حكم السلطان محمود الأول، وغرفة ساعات خلال فترة السلطان عبد المجيد، التي شهدت أيضاً ترميماً شاملاً للهيكل القديم نفذه مهندسون معماريون سويسريون بين عامي 1847 و1849.

ومن المفارقات أن المؤرخ الروسي بيتر أوسبنسكي علق في ذلك الوقت بالقول: "أبدى الأتراك تقديراً لمعالم المدينة أكثر مما أبدته الجيوش الصليبية التي احتلت إسطنبول عام 1204".

وأصبحت آيا صوفيا أيضاً تضم أكبر مجموعة خطوط في الإمبراطورية، وعدداً لا يحصى من النقوش الذهبية والبلاط والانعكاسات الفنية للتراث الحضاري التركي.

وعلى حد تعبير الشاعر التركي نجيب فاضل قيصاروك: "آيا صوفيا ليست حجراً، ولا خطاً، ولا لوناً، ولا مادة، ولا سيمفونية جوهرية. بل هي معنى روحي خالص، معنى ينفرد بذاته".

لكن آيا صوفيا أيضاً أكثر من مجرد نصب تذكاري يشهد على عظمة الإنجاز البشري والتعبير الفني. فهي المثوى الأخير لخمسة سلاطين وعائلاتهم، وهو ما يمنحها مكانة تاريخية مبجلة تتناسب مع عمرها وتاريخها.

وبعد صدور الحكم الذي فتح الطريق أمام المصلين للصلاة في آيا صوفيا، ما من شك في أن هذا الصرح الأثري ستظل له مكانته الخاصة في قلوب أتباع العديد من الأديان حول العالم، وسيظل واحداً من المواقع التراثية الأكثر احتراماً في تركيا.

لجأ المحامون في القضية إلى الميثاق المؤسس لآيا صوفيا نفسه، والذي يُعَد ملكية خاصة للسلطان محمد الفاتح (DPA)
أضيفت الدعامات إلى جوانب آيا صوفيا لمنعها من الانهيار في عهد مراد الثالث على يد المهندس المعماري الشهير سنان (AP)
TRT عربي