تابعنا
الحرب الإسرائيلية المستعرة على الفلسطينيين تؤكد أن المقاومة الفلسطينية لا تزال تقدم نماذج بطولية نادرة في مواجهة اعتداءات المحتل، صحيح أن أي قوتين متصارعتين متماثلتين في القوة قد تحققان في نهاية المطاف توازن القوى، ومن دون ذلك فيوجد منتصر ومهزوم.

لكن المقاومة الفلسطينية التي لا سبيل لتوازن قوة مع دولة غاصبة من ورائها أعظم قوة بالعالم حققت توازن الرعب مع دولة الكيان الإسرائيلي. ووقف العالم مشدوهاً أمام جسارة المقاومة وإصرارها على رد العدوان فتألم المحتلون كما تألم الفلسطينيون بيد أن الفلسطينيين يرجون من الله ما لا يرجوه أعداؤهم.

مع هذه الأمثلة البطولية افتقد الفلسطينيون دعم دول وحكومات كثيرة، وكشفت صورة المشهد التي احتلت الزمان والمكان فراغات وبثوراً عديدة في العقل العربي والإسلامي. وتأثرت إفريقيا بقطار التطبيع المجاني الذي ركبه على عجل العديد من الدول العربية. إن التواصل التاريخي والرباط الوثيق بين العرب والأفارقة الذي ربما يصل إلى درجة وحدة ثقافية تاريخية دينية ملتئمة تعرَّض ولا يزال لخطر الصهيونية العالمية التي تنطلق باتجاهها نحو القارة الإفريقية من عدائها التاريخي للوجود العربي والإسلامي وسعيها لضرب أي علاقة تجمع الجانبين، باعتبار ذلك يدعم ميزان القوة لصالح العرب بصراعهم مع الدولة الإسرائيلية التي تحتل الأراضي الفلسطينية.

ومن أكثر الأشياء دعوة لقلق إسرائيل قيام تضامن عربي-إفريقي يؤدي إلى جبهة سياسية واحدة تزيد حالة العزلة التي تعانيها. ولذلك جعلت إسرائيل أهدافها المهمة بالقارة الإفريقية إضعاف علاقات الأقطار الإفريقية بالعالم العربي، مما يقضي على أكبر منافس للوجود الإسرائيلي بالقارة ويفسح المجال لتـفرُّد إسرائيل بالنشاط بها.

ربما لا يجد الباحثون عناءً كبيراً وهم يبحثون عن الروابط الأزلية بين العرب والأفارقة في الدم والدين والثقافة وغيرها، وهي روابط فرضها الواقع الجغرافي، فالعلاقات بينهما علاقات قديمة قدم التاريخ وتعود إلى أكثر من ألفَي سنة. وكان للإسلام القدح المُعلى في توثيق عُرى الروابط العربية-الإفريقية. ومما لا ريب فيه أن انتشار الإسلام وحضارته بأجزاء واسعة من إفريقيا عبر القرون أوجد روابط حضارية وثقافية مهمة بين قطاعات كبيرة من أهل القارة. ويوجد ما يُشير إلى أن إفريقيا هي القارة الوحيدة التي يتجاوز عدد المسلمين فيها نصف عدد السكان، مما يجعلها القارة الإسلامية الأولى، أضف إلى ذلك الانتشار الكبير للغة العربية في إفريقيا الغربية وفي ساحل المحيط الهندي، بالإضافة إلى الأثر الفعّال الذي أحدثته في اللهجات الإفريقية الكبرى بخاصة الأمهرية التي كُتبت بالحرف العربي أزماناً مُتطاولة إلى بدايات القرن العشرين.

لعل من المدهش أن تكون أكثر الدول الأفريقية تأييداً وتفاعلاً مع القضية الفلسطينية دولة لا هي بالعربية ولا هي بالمسلمة. في سياق التصعيد الإسرائيلي الحالي أدانت وزارة العلاقات الدولية والتعاون بجمهورية جنوب إفريقيا بشدة الهجمات الجائرة التي تشنها إسرائيل على المدنيين في غزة والقدس. واعتبر بيان أصدرته باسم الجمهورية أن التصعيد المستمر للاعتداءات الإسرائيلية هو أمر غير عادل ومخزٍ، لا سيما استهداف الشريحة الأضعف من المجتمع الفلسطيني: الأطفال والنساء وكبار السن.

وما يحير حقاً كيف فشل القادة العرب والمسلمون بمحاصرة الدولة اليهودية على الرغم من توافر نفس المبررات التي على إثرها انهار نظام (الأبارتهايد) بجنوب إفريقيا وحلت محله جمهورية جنوب إفريقيا الحديثة؟ يوجد شبه تطابق بأسس النظامين الصهيوني و(الأبارتهايد) فقد أسس نظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا بتأسيس مفهوم الدولة أو السيادة على نشاط استيطاني ضمن مشروع استعماري انفصل عن الدولة الاستعمارية الأم (بريطانيا)، وتشكلت جماعة قومية من خلال هذا الاستيطان تؤكد تميزها "العرقي الأرقى" عن السكان الأصليين، فضلاً عن نظام حقوقي من الفصل العنصري يبقي "العرق الأدنى" في نطاق الدولة ولكن يحرمه كامل حقوقه كالتنقل والاقتراع، فأبناء "العرق الأدنى" السكان الأصليون هم نظرياً مواطنون لكن الدولة ليست تعبيراً عن تطلعاتهم بل أداة لسيطرة "العرق الأرقى" عليهم. وكل ذلك ارتكز على ثقافة سياسية ودينية تأسست على نظريات عرقية تتبناها الدولة والكنيسة وشكلت تبريراً نظرياً وأخلاقياً لنظام الفصل العنصري. كذلك نجد الدولة العبرية جاءت ضمن مشروع استعماري استيطاني احتضنته بريطانيا وأمريكا وشكل الاستيطان امتداداً لنفوذهما. ولم تكن بالإمكان إقامة دولة يهودية في فلسطين من دون طرد السكان الأصليين الذين شكلوا أغلبية.

الخبير في الشؤون الإفريقية ومدير مركز البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم بروفيسور حسن مكي أكد في حديث لـTRT عربي "أن جمهورية جنوب إفريقيا هي أكثر الدول الإفريقية دعماً للقضية الفلسطينية وبها أكبر السفارات الفلسطينية في الخارج. وأعتقد أن جنوب إفريقيا قد تلجأ إلى طرد السفير الإسرائيلي لديها إذا تصاعد تنكيلها بالشعب الفلسطيني". وأكد مكي أن جنوب إفريقيا قوية اقتصادياً وسياسياً ولها اعتبار واحترام لدى الدول الغربية. ويعتقد مكي "أن بقية الدول الأفريقية ضعيفة اقتصادياً وسياسياً، وحتى تلك التي كانت تتصدى للحراك المؤيد لفلسطين شلها وقوع حكوماتها في شراك التطبيع مثل المغرب والسودان".

من جانبه قال الصحفي والمحلل السياسي الفلسطيني سمير حجاوي لـTRT عربي: "إن مواقف الدول الإفريقية بشكل عام تميزت بدعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. إن إفريقيا كانت قارة شبه مغلقة أمام الاختراق الإسرائيلي. لكن هذا التعاطف والتأييد الإفريقي بدأ التراجع مع توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي، فمصر أكبر دولة عربية ومن أكبر الدول الإفريقية كذلك ومع الأسف فتحت كامب ديفيد الباب أمام عدد من الدول الإفريقية للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي". وأضاف حجاوي أن "دولاً عربية أخرى ساعدت في فتح الأبواب أمام الاختراق الإسرائيلي لإفريقيا كالمغرب وموريتانيا، وكان السودان آخر الداخلين في الحظيرة الإسرائيلية". وأقر حجاوي بأن نبضاً شعبياً في بعض الدول الإفريقية كجنوب إفريقيا لكنه أضاف أن "تأثير التعاطف الشعبي الإفريقي على الحكومات الإفريقية أضعف من أن يُجبرها على اتخاذ مواقف عملية لدعم الشعب الفلسطيني أو الدفاع عنه". ودعا حجاوي العرب لإعادة اكتشاف إفريقيا وسحب شعوبها إلى المربع الداعم للقضية الفلسطينية على الرغم من صعوبة هذه المهمة في ظل وجود دول عربية تعمل بالوكالة لترويج الكيان الصهيوني في إفريقيا.

من المؤكد وجود أساس قوي لبناء تضامن عربي-إفريقي مع توافر الإرادة السياسية في إطار تضامن إسلامي أوسع، فالنظرة الإسرائيلية العنصرية العقدية تجاه الإفريقيين مصدرها "التوراة" المزورة على زعم أن سواد البشرة إنما أصله لعنة نوح لابنه حام، ومن ثم حفدته. لكن الحضارة الاسلامية بُرّئت من مفاسد نظريات الشعب المختار والعرق والعنصر السيد التي تسود في أوروبا و(إسرائيل) وكانت تسود كذلك في جنوب إفريقيا وغيرها.

TRT عربي