تابعنا
يحتدم الجدل بين علماء الإدارة والاجتماع والفلاسفة على ماهية القيادة، وما إذا كان القادة يُصنعون أو يولدون. يتوازى مع ذلك جدل ثانٍ يتعلق بالفرق بين القائد والمدير.

صحيح أن القيادة الفعالة تتطلب تعلم فن إدارة البشر والموارد كأساس يبني عليه القائد قدرته على تنفيذ مسؤوليته، ولكن نجاح القائد سيعتمد على قدراته الشخصية في ترجمة ما تعلمه من فنون الإدارة لتحقيق النتائج العملية المطلوبة، وعليه يمكن القول إن القائد الناجح يُصنع بنسبة كبيرة، ويولد بنسبة أقل.

وليس الهدف هو الخوض في هذا النقاش بقدر ما هو السعي لتسجيل ظاهرة نعيشها ونراها رأي العين في فلسطين هذه الأيام، تتمثل في بروز قيادة غير تقليدية تتقدم الصفوف وتدير المعركة بشجاعة ونجاح.

دأبت النخبة السياسية التي تكوّن ما يُعرَف حالياً بالسلطة الفلسطينية على إطلاق اسم "القيادة الفلسطينية" على نفسها. وتتكون هذه النخبة السياسية من فسيفساء متنوعة من رموز واكبت زمانياً بروز الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة منذ أواسط القرن الماضي وانخرطت فيها بطريقة أو بأخرى، ومجموعة من قادة أحزاب وحركات سياسية صغيرة ما زال الغموض يكتنف ظروف نشأتها، إضافة إلى شريحة نشأت في الأراضي التي احتلت عام 1967، وخبرت الاحتلال وثقافته وسياساته ووجدت لها مكاناً في هذه النخبة بموافقته ومباركته.

وقد أخذت هذه "القيادة الفلسطينية" شكلها الحالي بموجب البيئة السياسية التي خلقها اتفاق أوسلو عام 1993 الذي اعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلةً للحركة الوطنية، بإسرائيل، وقبلت بالسعي لإقامة دولة فلسطينية بجانبها على نحو 20% المتبقية من أرض فلسطين التاريخية. ورغم الإجحاف الواضح في هذه الاتفاقية والذي يبرره من وقعوها بأنه نتاج اختلال موازين القوى لمصلحة الاحتلال، فإن ما يتعلق بالاحتلال من بنودها، على إجحافه، لم يُطبَّق، وأوقع ذلك هذه القيادة في حرج شديد أمام شعبها ومحيطها العربي والإقليمي المتعاطف بشكل عام مع قضية فلسطين. وجاءت الانتفاضة الشعبية الثانية التي اندلعت في سبتمبر/أيلول عام 2000، وفرض الاحتلال الإقامة الجبرية على ياسر عرفات في مقره برام الله المعروف باسم (المقاطعة)، لتكشف للشعب الفلسطيني محدودية الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه القيادة في مسيرة الكفاح الوطني لنيل الحرية والاستقلال.

وقد كانت الساحة مهيأة لظهور قيادة جديدة تأخذ زمام المبادرة وتنتهج طريقاً مختلفاً عن الطريق المسدود الذي سارت فيه هذه القيادة، إلا أن الملاحقة المستمرة بالاعتقال والتصفية الجسدية لمن حاولوا ذلك كما حدث للشهيد باسل الأعرج، إضافة إلى الثقافة الحزبية الإقصائية وغير الديمقراطية للتنظيمات الوطنية الفلسطينية حالت دون ذلك، حيث ينظر لمن يجتهد بعيداً عن نهج القيادة السياسية على أنه يشكك فيها أو يسعى للانقلاب عليها. وكان من نتيجة ذلك نشوء قيادات وتطور أحزاب وحركات جديدة في فضاء جغرافي لا يخضع لهذه القيادة السياسية وخارج سيطرتها، ونعني تحديداً منطقة قطاع غزة، حيث تطورت هناك الحركات التي لا تؤمن ولا تلتزم بالنهج السياسي لما بات يُعرَف بـ"القيادة الفلسطينية"، وأصبح لهذه الحركات والتنظيمات دورها الوطني والكفاحي المتميز بعيداً عن فلك هذه القيادة.

وأمام إخفاقات القيادة التقليدية وتراجع دورها الوطني وانحساره في حدود التعامل مع بعض المسائل الحياتية المتعلقة بعمل البلديات، فضلاً عن دورها الأمني الذي جعلها في نظر عامة الناس مجرد مؤسسة تابعة لسلطة الاحتلال تأتمر بأوامره وتلتزم بسياساته، باتت قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني تؤمن بأن قائدها هو مَن يقاوم المحتل، ومَن يتصدى للعدوان، ولا يتهرّب مِن القضايا الكبيرة كالعودة والتحرير والدفاع عن المقدسات. وإن كان جزء من الشعب مضطراً إلى التعامل مع مَن يطلقون على أنفسهم "القيادة الفلسطينية" فهذا راجع لتحكمها في إدارة الأموال والمؤسسات التي لها علاقة بحياة الناس اليومية. بيد أن هذا التعامل مع هذه القيادة ينحصر في حدود كونها "المدير" وليست القائد. وقد ظهر ذلك جلياً في الثورة الشعبية التي تشهدها القدس وبقية فلسطين في الآونة الأخيرة، حيث هتف المقدسيون باسم من يصنع الصاروخ ويحمل البندقية ويتصدى للاحتلال ويعلن أن غايته التحرير والاستقلال. فكان اسم محمد الضيف الذي يقيم على بعد 70 كيلومتراً من القدس هو الذي تردده حناجر المتظاهرين، وليس اسم محمود عباس الذي يقيم على بعد 10 كيلومترات من القدس.

وعندما برزت القضايا الوجودية كمحاولة السيطرة على بيوت الفلسطينيين أو منعهم من حرية العبادة في أقدس الأماكن لديهم غابت "القيادة الفلسطينية" التقليدية، وصار القائد هو من يبتسم في أثناء اقتياده إلى السجن على أيدي جنود الاحتلال، وصار القائد الحقيقي هو من يبدأ بثاً مباشراً عن الأحداث عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية كما فعلت المناضلة والإعلامية المقدسية منى الكرد، وكما أمسى القائد هو من يردد أغنية لفلسطين الوطن مثل مريم العفيفي عازفة الكونتراباس التي انخرطت في الدفاع عن الحرم القدسي بكفها العزلاء، وبرز كقائد من يجسد جوهر الصراع وتفاصيله معاً بريشته كما يفعل رسام الكاريكاتير الدكتور علاء اللقطة، وقد ألهم هؤلاء جميعاً من يصوغ التغريدة المقتضبة المشبعة بالفعل النضالي كما فعل قائد المقاومة في غزة، والمهندس الذي يستشهد وهو يجمع أجزاء الصاروخ والمقاوم الذي تضغط يده على الزناد، والمتظاهر الذي رفع العلم الفلسطيني في سماء مدينة اللد مطيحاً بعلم دولة الاحتلال، ومن دعا للتظاهر والاشتباك مع سلطة الاحتلال في حيفا وعكا والناصرة وأم الفحم ويافا.

وإذا كانت القيادة هي شخصية وحكمة لا يمكن تعليمهما كما يقول وارين بينيس متفقاً مع الفيلسوف والكاتب الأسكتلندي توماس كارليل الذي يرى أن القيادة موهبة فطرية وليست مهارة مكتسبة، فقد بات جميع من ذكرنا هم القيادة الحقيقية التي يسمع الناس كلامها ويلبون نداءها بل يستجيبون لتعليماتها. القيادة الفلسطينية الحقيقية هي التي ولِدت من رحم الأحداث، وليس خطأً ما قاله رجل الأعمال الأمريكي بيتر راكر إن القيادة مهارة يمكن تعلمها، لكن الأكثر دقة هو أن القيادة مهارة يمكن صقلها لمن تتوفر لديه إرادة صناعة الحدث. القائد هو الذي يصنع الحدث ومن ثم يتعامل معه بنجاح ومهارة واقتدار، وهذا هو الفرق بين القائد والمدير. القائد يملك ثقة كبيرة في نفسه ويحاول أن يزرعها في تابعيه، يتحمل المسؤولية ولا يلقي باللوم على الآخرين، يؤمن بالعمل الجماعي ولا يتفرد بالقرار. لقد فعلت "القيادة الفلسطينية" التقليدية كل ما هو نقيض لهذه الصفات فكان من الطبيعي أن يلتف الناس، وبصورة نادرة في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، حول من تصدوا بصدق للغزاة وحملوا قضيتهم للعالم على أثير الإنترنت والإعلام الجديد، كما حملوا أرواحهم بصدق على أكفهم وتقدموا الصفوف.

TRT عربي