رايات الانفصاليين في جزيرة كورسيكا / صورة: AFP (AFP)
تابعنا

أيقظت سنة 2022 مطالب الانفصال في عدد من المناطق الفرنسية، بعد أن كانت خامدة لفترة طويلة. ففي مارس/آذار الماضي، عرفت جزيرة كورسيكا احتجاجات واسعة تخللتها مطالب بالاستقلال، رداً على اغتيال ناشط محلي في أحد السجون الفرنسية. وقبلها خرج سكان الأنتيل إلى الشارع تنديداً بإجراءات كورونا، ولا يزالون يحتجون طلباً للإنصاف في قضية التسميم الجماعي بمبيد الكلورديكون.

وغير المنطقتيَن المذكورتَين، استمر ضغط الحركات الاستقلالية في كاليدونيا الجديدة، منددة بجريمة التسميم الإشعاعي جراء التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في أراضيهم. كما أحيا هذا الزخم مطالب نشطاء منطقة بريتاني، الذين طالبوا الحكومة بإجراء استفتاء لتقرير مصيرهم.

ويرجع مراقبون هذه التحركات إلى فشل حكومات ماكرون المتعاقبة في معالجة عدة ملفات تهم سكان تلك المناطق، التي لها تاريخ طويل في المطالبة بالانفصال.

عودة مطالب الاستقلال إلى كورسيكا

في مارس 2022، عادت الاضطرابات الاجتماعية العنيفة لتهز جزيرة كورسيكا، ووقعت صدامات بين رجال الشرطة ومتظاهرين خرجوا احتجاجاً على الاعتداء الذي طال الناشط الانفصالي إيفان كولونا داخل أحد السجون الفرنسية، والذي لقي حتفه إثره بعد نحو 20 يوماً قضاها في أحد مستشفيات مارسيليا.

المئات من سكان مدينة أجاكسيو خرجوا إلى الشوارع حاملين لافتة كبيرة كُتب عليها "من أجل إيفان، الدولة الفرنسية سفاحة!"، بعضهم ملثَّم أو مسلَّح بمضارب التنس، في إشارة إلى استعدادهم للاشتباك مع رجال الشرطة. وفي باستيا، ثانية أكبر مدن الجزيرة، اندلعت مواجهات بين رجال الشرطة والمتظاهرين، رُشقت فيها قوات حفظ الأمن الفرنسية بالحجارة فردّت بالقنابل المسيلة للدموع والمطاردات.

ولاحتواء الوضع، سارعت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات في حق السجناء الانفصاليين، فأسقطت عنهم الوضع الخاص الذي كان يحرمهم الزيارة في المعتقل. وحثّ رئيس المجلس الإداري لكورسيكا جيل سيميوني، حكومة ماكرون على أن تفتح "نقاشاً سياسياً جديداً وتعترف بأن في كورسيكا مسألة عالقة".

وتتميز جزيرة كورسيكا الفرنسية، الواقعة في عرض السواحل المتوسطية للبلاد، بخصوصية لغوية وثقافية، فلأهالي الجزيرة لغتهم الخاصة، وهي من عائلة اللغات اللاتينية الرومانية. كما أن لهم عاداتهم وثقافتهم الخاصة، التي تميزهم عن اللغة والثقافات المشتركة بين المناطق الفرنسية. وهو الأمر الذي أدى إلى صعود حركة انفصالية فيها منذ خمسينيات القرن الماضي.

وعادت هذه المطالبات الانفصالية إلى الظهور إثر مقتل النشاط إيفان كولونا، والذي كان أحد الوجوه البارزة للنضال القومي الكورسيكي. وطرح رئيس المجلس الإداري للجزيرة جيل سيميوني، مشروعاً لما أسماه "الاستقلال الإداري لكورسيكا"، وهو ما وعد وزير الداخلية جيرالد دارمانان بالاستجابة له ومنح الكورسيكيين "حكماً ذاتياً".

"بريتاني تريد تقرير مصيرها!"

وشجعت المطالبات الانفصالية في كورسيكا النشطاء القوميين في منطقة بريتاني لمعاودة مطالبتهم بتقرير المصير. وتزامناً مع ذاك نشرت الجبهة الثورية للإقليم رسالة مفتوحة على وسائل الإعلام الفرنسية، طالبت فيها بإعادة توحيد منطقة لوار أتلانتيك بإقليم بريتاني وإجراء استفتاء تقرير مصير في الإقليم بأكمله.

وهددت الجبهة بالعودة إلى أعمال العنف ضد السلطات الفرنسية، إذا لم تستجب الحكومة إلى مطلبها. وقالت في الرسالة المذكورة: "يدرك جيش بريتاني الثوري أن الحكومة لم تستمع إلى شعب كورسيكا إلا بعد اندلاع أعمال عنف، لذا نعتقد أن الكفاح المسلح مكمّل لنضالنا السياسي".

ومنذ ستينيات القرن الماضي، تطالب الحركة القومية في بريتاني باستقلال الإقليم، وكان ذلك سبباً في اندلاع أعمال عنف وتفجيرات دامية خلال السبعينيات والثمانينيات. ويصر البريتانيون على اعتبار أنفسهم مختلفين ثقافياً ولغوياً عن الفرنسيين، كما لخصوصيتهم التاريخية كون الإقليم عاش فترة استقلال طويلة قبل إلحاقه بالمملكة الفرنسية في القرن السادس عشر.

غضب الأنتيل المتصاعد

إضافة إلى هذا، شهدت منطقة جزر الأنتيل الفرنسية، غوادلوب ومارتينيك، احتجاجات عزَّزت النزعة الانفصالية لدى سكان الجزر. ومنذ أواخر 2021، انفجرت الأوضاع في الجزيرتين رداً على القيود الصحية التي فرضتها عليهم حكومة باريس.

وقتها، ألقى وزير ما وراء البحار الفرنسي سيباستيان لوكورنو، خطاباً تلفزيونياً، أكد فيه أن الحكومة كانت "مستعدة" للحديث عن قدر أكبر من الحكم الذاتي للجزيرتين، بعد طرحها القضية عبر مسؤولين محليين.

واستمرت التوترات في المارتينيك وغوادلوب حتى 2022، بعد أن رفضت المحكمة الفرنسية إنصاف سكانها في قضية التسميم الجماعي جراء مبيد كلورديكون المحرم دولياً. والذي يدفع ثمنه السكان إلى اليوم بارتفاع نسب تفشي السرطانات بينهم.

ومنذ 1972 تسمح الحكومة الفرنسية لمزارعي الموز بغوادلوب ومارتينيك باستعمال مادة الكلورديكون القاتلة لمعالجة زراعتهم. وتعد هذه المادة عالية السميَّة التي تُوظَّف في الفلاحة، مبيداً حشرياً للقضاء على العثَّة التي تهاجم شُجيرات الموز. وحتى بعد أن حرمت منظمة الصحة الدولية استخدامها عام 1979، حظرت فرنسا استخدامها في برها الرئيسي، لكنها سمحت باستخدام المادة في جزر الأنتيل حتى تسعينيات القرن الماضي.

وربما يدوم الضرر الذي تسبب فيه الكلورديكون لقرون عديدة، إذ لا تتحلل جزيئات الكلورديكون قبل مرور 700 سنة. وسبّب استخدام هذا المبيد تلوثاً كبيراً لتربة ومياه غوادلوب وسواحلها وقطعان مواشيها. وفي 2000 أُغلقَ معمل لتعبئة المياه في الجزيرة لوجود آثار المادة السامة في منتجاتها، وبعدها بخمس سنوات وثّق تقرير برلماني تلوث المياه الجوفية الغوادلوبية بنسب كلورديكون أعلى بـ100 مرة من المسموح به.

استمرار دعوات الانفصال في كاليدونيا الجديدة

وتستمر الحركات القومية في كالدونيا الجديدة في المطالبة باستقلالها. ومع أن النزعة الانفصالية في تلك المنطقة تُعدُّ عريقة، فإنها عادت للبروز في إطار توتُّر العلاقات بين فرنسا ودول حلف "أوكوس" العسكري، في إطار ضغوط دولية لاستقلال الإقليم، تَمثَّل بإدراج الأمم المتحدة له على لائحة "المطالبة بإنهاء الاستعمار".

إضافة إلى هذا، تعيش كاليدونيا الجديدة كذلك تحت وقع جريمة جماعية اقترفتها في حقها الحكومة الفرنسية، باستخدام أراضيها مسرحاً لـ193 تجربة نووية بين عامَي 1966 و1996، إذ تَعرَّض سكان هذه الجزر في المحيط الهادئ لتسمُّم إشعاعي تسبب في انتشار كبير لأمراض السرطان هناك.

وشهدت كاليدونيا الجديدة إجراء استفتاء ثالث للانفصال في ديسمبر/كانون الأول 2021، قاطعه الانفصاليون رداً على رفض باريس تأجيل موعده الذي أتى متزامناً مع "اليوم الوطني لحداد الكاناك"، واعتُبر تشبث الحكومة الفرنسية بذلك مهيناً لهذه الإثنية من السكان الأصليين لتلك الجزر.

TRT عربي