تابعنا
في الوقت الذي لم تشكل فيه الظاهرة فعلاً جديداً، إذ صاحبت الإنسان عبر تاريخه خصوصاً عندما استوطن وبدأ بقاءه على قيد الحياة اعتماداً على الغزو وشن الحروب، فإن حملات التضليل والدعاية قد أخذت في عصر الإنترنت والمنصات الرقمية بُعداً جديداً.

وقد اعتمد هذا البُعد الجديد للظاهرة من حيث اتساعه ومدى انتشاره على ثلاثة عوامل رئيسية هي: التكلفة، والوصولية، والترابطية الشبكية. فالدّعاية وحملات التضليل لا تحتاج إلى تكلفة عالية، ما دامت خدمة الإنترنت أصبحت تلامس حاجز المجانية، وما دامت الشبكة العنكبوتية تصل إلى أكثر من ثلاثة أرباع سكان الأرض، وتربط بين عشرات المليارات من الأجهزة الرقمية اللوحية.

أمام هذا الواقع، توسع اللاعبون، خصوصاً الدول، في استخدام الدعاية لتحقيق أغراضهم السياسية. وبعد أن كانت الدعاية ضمن العقيدة التقليدية تستخدم إبّان الحروب والتجهيز لها، أصبحت اليوم تستخدم في جميع الأوقات، وعلى المستويات كافّة، في أوقات السّلم وغيرها، بمعنى أنها باتت توجَّه ضد الرأي العام المحليمن أجل إقناع الشعب بقضية يريدها النّظام، أوضد الخصوم الخارجيين للتأثير على قناعاتهم، وتوجهاتهم، والرأي العامّ لديهم.

على مستوى الدعاية المحلية، تبرز الدعاية الروسية، على سبيل المثال، التي تعمل بشكل مستمر على تمجيد صورة الرئيس بوتن، وقد استُثمرت جيداً في خطاب الدعاية بعد أن وصفه الرئيس الأمريكي بايدين بـ"القاتل"، ليرد عليه الرئيس بوتن بطلب نقاش عامٍّ بينهما ليحددوا مَن القاتل، وعندما لم يأتِ رد من البيت الأبيض، انطلقت ماكينة الدّعاية الروسية في استعراض موقف بوتن واصفة الرئيس بايدن بالكبير والشائخ. بطبيعة الحال الأمر لا يتعلق بروسيا وحدها، فجميع الأنظمة الشمولية، وغير الشمولية، تسعى إلى استثمار الماكينة الرقمية في دعم تصوراتها وتوجهاتها حول سياساتها العامة.

أما على مستوى الخصوم الخارجيين، فقد أظهرت بعض التقارير أن مجموعة من الدول برزت في هذا المجال عن غيرها، كان على رأسها الصين، ثم روسيا، وإيران، وكوريا الشمالية. وقد أخذ التدخل في الانتخابات لتوجيه الرأي العام في دول الخصوم المثال الأبرز ضمن هذا المستوى. وفي الوقت الذي لا ينحصر هذا المستوى على المثالين البارزين، وهما التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016، وحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" عام 2016، فإن هذا التكتيك في حرب المعلومات أصبح ينتشر في غالبية دول العالم، مثل فنزويلا، وإثيوبيا، وصربيا، وغيرها.

ففي صربيا، على سبيل المثال، أجريت الانتخابات العامة في 21 يونيو/تموز 2020 وفاز فيها زعيم الحزب التقدمي الصربي ألكسندر فوتشيتش بأغلبية في المقاعد البرلمانية. وقُبيل يوم الانتخابات زعم ألكسندر أن بلاده تتمتع بواحدة من أقل معدلات الوفاة لكبار السن بسبب فيروس كوفيد-19 في أوروبا، وهو ما اتضح زيفه لاحقاً بعد كشف منظمة التحقق من الأخبار الكاذبة الصربية المعروفة بـ Istinomer، أن ما لا يقل عن 20 دولة تتمتع بهذه المعدلات في أوروبا.

وعلى الرغم من الطرق الإبداعية التي بات يلجأ إليها الفاعلون عبر الدعاية والبروباغندا الرقمية، فإن طريقة الرد عليها ما زالت تتسم بنوع من التقليدية عبر إجراءات عفا عليها الزمن كالعقوبات الاقتصادية على سبيل المثال والتي هددت الولايات المتحدة بفرضها على روسيا جراء تدخلها في انتخاباتها الأخيرة التي جاءت بالرئيس بايدن إلى سدة الحكم.

وبناء على ذلك، فإن ثلاث حقائق لا بد من أخذها بالحسبان عند التفكير في وضع استراتيجية لمكافحة حملات الدعاية والتضليل الرقمية:

الحقيقة الأولى تتعلق بالبُعد الخطابي.

فحملات الدعاية والتضليل، وهي ضمن تصنيفات حروب المعلومات، تنتمي إلى المواجهة غير المتكافئة Asymmetric Warfare، وهذا يعني أن أسلوب الردع التقليدي لا يجدي نفعاً، وإنما يجب التفكير في بعد آخر يتعلق بثلاثية التحليل، والفضح، والرد المقابل.

إن واحداً من أهم أسلحة حملات الدعاية والتضليل هو الأخبار الكاذبة Fake News، وهو ما بات يشكّل جوهر عصر ما بعد الحقيقة Post-truth Age، وما دامت هناك أخبار كاذبة، فهذا يعني وجود أخبار صحيحة تقابلها في مكان ما، وأفضل علاج حينها لحملات التضليل هو فضح زيف هذه الأخبار الكاذبة بدايةً، ومن ثمّ تصحيحها عبر دعم وإظهار الأخبار الصحيحة، وبعد ذلك نشرها على نطاق واسع.

أما الحقيقة الثانية فتتعلق بالبُعد السيكولوجي.

فحملات الدعاية والتضليل تعمل بشكل أساس على استثمار البنية النفسية للإنسان من أجل تغيير أو تعظيم قناعته. وهنا يجب التأكيد أن حملات التضليل لا تتخذ من أسلوب الإكراه استراتيجية لها في فرض إرادتها على الطرف الآخر، وإنما تتخذ من أسلوب الإقناع طريقاً للتأثير والتلاعب.

وأسلوب الإقناع لا يمكن أن يحقق النتائج المرجوة منه من غير وعي تام بسيكولوجية الطرف الآخر من أجل استثمار نقاط الضعف فيه لاستغلالها. وإذا كان البعد الخطابي يتعلق بالمواجهة غير المتكافئة، فإن البُعد السيكولوجي يتعلق بالقوّة الناعمة التي من خلالها يستطيع طرفٌ ما فرض إرادته على طرف آخر بالتأثير والإقناع دون إراقة دماء.

وقد استفاد أصحاب الدعاية والتضليل، في هذا الصدد، من البيانات الهائلة المتوفرة عن الأفراد والموجودة على شبكة الإنترنت والمنصات الرقمية وذلك من أجل رسم خرائط ذهنية ونفسية عن المستخدمين. ويستطيع هؤلاء، ومن خلال مساعدة شركات تحليل البيانات، الوصول القويّ إلى عقول الأفراد لاختراق أفكارهم، وهو ما وضعنا أمام مستوى آخر من الاختراق والذي لا يتعلق باختراق الأجهزة اللوحية للمستخدمين وحسب بل اختراق أفكارهم.

ومن خلال استخدام هذا التكتيك في تسليح المعلومات، فإن حملات الدعاية تُصَمم من أجل استغلال جانبين أساسيين من جوانب الإنسان النفسية هما: المظالم والخرافات.

فيما يتعلق بالخرافات، على سبيل المثال، يمكنك بسهولة العثور على الكثير من الأشخاص الذين لا يزالون من أصحاب الاعتقاد بأن الأرض مسطحة، وغيرهم ممن لا يؤمنون بالتطعيمات الوقائية من المرض. ويعتقد ميتشيو كاكو، الفيزيائي الأمريكي المهتم بالعلوم المستقبلية، أن الإيمان بالخرافات هو أحد التراكيب الجينية للإنسان.

وفي إحدى خطاباته، شدد كاكو على نوع واحد من هذه الخرافة يسمى باريدوليا Pareidolia. وأرى أن ذلك وثيق الصلة عندما نتحدث عن المعلومات المضللة. والباريدوليا، حسب وصفه، هي "فكرة أنه عندما تنظر في السماء، ترى أشياء غير موجودة. وإليك تجربة واحدة: انظر إلى السحب وحاول ألا ترى شيئاً هناك. إنه أمر صعب للغاية. تنظر إلى الغيوم. فلا يمكنك إلا أن ترى شيئاً. ترى دونالد داك، ترى ميكي ماوس، ترى الثعابين والحيوانات، ترى كل أنواع الأشياء".

تعمل المعلومات المضللة كوسيلة للوصول إلى هذا الاتجاه عندما تغذي النّاس بمعلومات لم يتم التحقق منها والتي تزيد أوهامهم الباريدولية. مجرد إلقاء نظرة على منكري تغيّر المناخ، تعلم مدى أهمية هذه الظاهرة في حملات التضليل، فهؤلاء يعتقدون أن جميع الكوارث البيئية مجرد أخبار كاذبة.

لذا، إذا جمعت الخرافات مع المظالم معاً، كما حدث مع بعض القرى في بريطانيا التي خُوّفت من المهاجرين ومن سوء توزيع الثروة ضمن الاتحاد الأوروبي، فستكون النتيجة مزيجاً قبيحاً يجعل الناس أكثر عرضة للاستغلال والتلاعب.

الحقيقة الأخيرة فتتعلق بالبعد الهيكلي للإنترنت ولشبكات التواصل الاجتماعي الرقمية.

فالإنترنت، والمنصات الرقمية من خلفها، هي أعظم نظام لتوصيل المعلومات المتحيزة في التاريخ. وقد صُممت الأدوات التحليلية والسلوكية للويب لتزويدنا بالمعلومات التي تتفق معها مسبقاً. فإذا كانت برامج مثل Google و Facebook، على سبيل المثال، ترى أنك تحبّ Golden State Warriors، فسيمنحك المزيد عن Steph Curry. وإذا اشتريت كريماً للوجه مضاداً للتجاعيد، فسيعطيك الكثير من المعلومات حول المرطّبات. وإذا كنت تحب الأفكار الحافظة أو الليبرالية حول قضية معينة كالتأمين على الحياة، فسوف تمنحك الخوارزميات محتوى يعكس قناعتك السياسية. فما لا تفعله هذه المنصات هو إعطاؤك محتوى يشكك في معتقداتك.

بكلمة أخرى، تميل حملات التضليل إلى تأكيد المعتقدات والتصوّرات القائمة بالفعل، وليس المقصود منها في الغالب تغيير آراء الناس. فحملات التضليل لا تخلق الانقسامات بل تقوم بتضخيمها، ولا تنشئ الأوهام بل تقوم بتغذيتها.

في نهاية المطاف، ما لم تؤخذ هذه الحقائق الثلاث بعين الاعتبار، الخطابية، والسيكولوجية، والهيكلية، فإن الحديث عن مكافحة حملات التضليل والحد منها لن يعدو كونه ضرباً من الخيال.

TRT عربي