تابعنا
قبل الحرب كان السودانيون يتهيؤون لشهر رمضان بطقوس خاصة تبدأ الاستعدادات لها منذ شهر شعبان، إذ تعبق الأزقة والحواري بروائح "الحلومر"، وهو مشروب شعبي سوداني توارثته الأجيال في السودان عبر السنوات.

استقبل السودانيون شهر رمضان هذا العام مع استمرار الحرب وظروف النزوح، إذ شردت الحرب الدائرة في البلاد منذ 15 أبريل/نيسان 2023 أكثر من ثمانية ملايين شخص، إضافة إلى حاجة 25 مليون شخص للمساعدات.

قبل الحرب كان السودانيون يتهيؤون لشهر رمضان بطقوس خاصة تبدأ الاستعدادات لها منذ شهر شعبان، إذ تعبق الأزقة والحواري بروائح "الحلومر"، وهو مشروب شعبي سوداني توارثته الأجيال في السودان عبر السنوات، ويُقال إن عمره يقارب خمسة آلاف عام حسبما يشير بعض المصادر الإعلامية. كما تتزين الشوارع الداخلية للمدن بزينة رمضان، خصوصاً مدن ولاية الخرطوم الثلاث (الخرطوم وأم درمان وبحري)، فيما تتجهز الساحات العامة وتُعَدّ لإقامة الإفطارات العامة والجماعية، وتُحضر "التكايا" لتقديم وجبات الإفطار للمارة وعابري السبيل، وتنشط المنظمات التطوعية والمبادرات المجتمعية لتقديم وجبات الإفطار في الطرقات للمارة الذين أدركهم موعد الإفطار في الشارع.

ووفق المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة سيندي ماكين فإن نحو 90% من الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع في السودان عالقون في مناطق لا يستطيع برنامج الأغذية العالمي الوصول إليها.

وأضافت أن الناس في السودان بين مراكز الإيواء ومساكن اللاجئين في الدول المجاورة، والمجاعة تعصف بالبقية، إذ إنّ "حياة الملايين والسلام والاستقرار في المنطقة بأكملها على المحك".

ويعاني معظم السكان من أزمات مختلفة تبدأ بالسكن والصحة ولا تنتهي بالغذاء، في ظل انقطاع شبكات الاتصالات والإنترنت عن عدد من الولايات المختلفة، مما يصعب مهمة تلقي الأموال والمساعدات التي تصل إلى الأُسَر من أقاربهم خارج السودان في ظل تأثر التطبيقات البنكية بذلك.

"فقدنا أحباءنا ومنازلنا"

"يأتي رمضان هذا العام وقد تغيّر كثير من الأشياء، أولها المكان والبُعد عن الأهل بعد أن أُجبرنا على السفر إلى بلاد الغربة، أفتقد تجمعات الأصدقاء والإفطارات الجماعية للأهل والأقرباء، لم يعُد هناك شيء مما كان في الماضي"، هكذا يُعبّر الشاب الثلاثيني المغترب عن أهله مؤمن عبد الحميد الذي هاجر من مدينة الخرطوم بحري إلى المملكة العربية السعودية بسبب الحرب.

ويقول عبد الحميد لـTRT عربي: "في قريتنا الصغيرة (أم تَكَالي الواقعة شرق النيل) يوجد مكان يجمع كل الناس، يلتقون فيه خلال شهر رمضان للإفطار الجماعي، أفتقد هذه الطقوس الآن".

ويصف شعوره في كل عام وهو يستقبل شهر رمضان بأن "استقبال الشهر الكريم له طقوس كثيرة عندي ويمر بأكثر من مرحلة، منها تجهيز المنزل كمرحلة أولى، وجلب الاحتياجات الضرورية، ومِن ثم تجهيز (التكية)، وهي في ثقافة أهل السودان مكان تقديم الطعام للعامة، ونبدأ بشراء البُسط التي نفترشها للإفطارات وبقية الاحتياجات الرمضانية الأخرى".

كما يعرب عن حزنه لفقدان عدد من أحبائه بسبب الحرب، ويضيف: "فقدنا الأعزاء الذين كانوا يشاركوننا تفاصيل رمضان، فمنهم من توفي ومنهم من هُجِّر".

ويصف إحساسه بأنه "موحش" إذ يخالجه شعور الغربة التي يعيشها منذ شهور ويجهل حتى أماكن إفطاره هذا العام، وهو الذي تعوّد الإفطار في الشارع باعتباره جزءاً من تقاليد الثقافة السودانية.

بدورها تقول الشابة العشرينية مأوى عيسى إنها كانت تستقبل شهر رمضان بمشاركة أهلها في التحضيرات لرمضان وجلب الاحتياجات الأساسية للأسرة، وكانت تشتري بعض المواد التموينية، منها جوال السكّر، والبلح، والبهارات، إلا أن رمضان هذا العام لم تستطِع فعل ذلك لفقدانها عملها وراتبها الشهري.

وفي حديثها مع TRT عربي ترى عيسى أن الاختلاف الأكبر في رمضان الحالي أنه فقدَ طقوسه المعتادة، إذ إنه "لا الأماكن أو الشوارع هي ذاتها، ولا التحضيرات مثل كل عام"، وفق تعبيرها.

وتضيف: "أفتقد هذا العام مشروب الحلومر (الآبري) رغم أنني لا أحبه ولم أتوقع في حياتي أنه سيأتي يوم أفتقد فيه روائح المشروب التي كانت تعبق في المكان، سأفتقد تفاصيل الحي الذي كنت أقطنه والتهجد ورؤية النساء والشباب والأطفال وهم يخرجون من المسجد.. سنفتقد الهدايا التي كنا نهديها والتي كنا نستقبلها".

التجمعات النسوية المتآزرة

ويصف الباحث في الثقافة والتراث الأستاذ محمد الحسن شقيرة أن الاستعداد لشهر رمضان في السودان يبدأ بالتجمعات النسوية المتآزرة "في صورة تكافلية جميلة وجامعة"، مشيراً إلى أن "كل منزل سوداني يحتاج إلى تلك النفرة الاجتماعية الإنسانية، خصوصاً عند تحضير صناعة المشروب المحلي الحلومر".

تعبق الأزقة والحواري خلال شهر رمضان بروائح "الحلومر" وهو مشروب شعبي سوداني توارثته الأجيال في السودان عبر السنوات. (TRT Arabi)
تحضير "الحلومر"، وهو مشروب شعبي سوداني توارثته الأجيال في السودان عبر السنوات. (TRT Arabi)

ويرى شقيرة في حديثه مع TRT عربي أن الشعب السوداني تعوّد الكرم في هذا الشهر الكريم، فهم يغلقون الطرقات لإفطار المسافرين وعابري السبيل، مبيناً أن "للسودانيين عادات متأصلة وضاربة في الجذور ولا توجد دولة تشبه السودان من حيث تلك العادات، إذ يفطر العامة في كل المدن في الطرقات لمشاركة العابرين موائدهم، وهي عادات يستغربها كل العالم".

ويضيف أن التغيير في رمضان هذا العام حدث للنازحين الذين كانوا يكرمون المارة في الأعوام السابقة، وهم أهل بذلٍ وعطاء، إذ أصبحوا الآن ضيوفاً (بسبب الحرب) ويتحسرون على عدم استطاعتهم تقديم ذلك الفضل.

مبادرات خيرية

بدوره يقول مدين صالح مسؤول المتطوعين في مبادرة "وثبت الأجر" إنّ استعدادهم لرمضان يبدأ باكراً بتوفير المكان الذي سيعدّون فيه الوجبات ويضعون فيه المواد الغذائية قُبيل تجهيزها للإفطارات الجماعية التي كانوا يقيمونها لمدة تسعة أعوام، والتي بالنسبة إليهم أصبحت "أسلوب حياة".

ويضيف صالح لـTRT عربي أنهم يتعاملون وفق تنظيم عالٍ بين بقية الأفراد داخل المبادرة، إذ يُوفر سكن (للأمهات) اللواتي يعددن الطعام منذ اليوم الثاني من رمضان وحتى اليوم الأخير، وتُحدَّد ميزانية تقديرية لتكلفة وجبة اليوم الواحد.

ويشير إلى أنهم يقدمون الوجبات في 12 موقعاً ثابتاً وما مقداره ثلاثة آلاف وجبة في اليوم، وموائد كاملة للصائمين في المواقع الثابتة، منها مواقف المواصلات السفرية والمستشفيات والمجمعات الطبية والسجون ومناطق سكن الطلاب، وينتقلون إلى المناطق الطرفية المجاورة لمدينة أم درمان في آواخر شهر رمضان.

ويؤكد صالح أن الحرب الدائرة في البلاد الآن أثرت اقتصادياً في مبادرتهم ووقفت نشاطهم التطوعي للمرة الأولى الذي استمر لتسع سنوات والذي لم يتوقف حتى بداية الأيام الأولى للحرب في رمضان عام 2023.

ويلفت إلى أن المتطوعين الذين يعملون في مبادرتهم منذ السنوات الماضية بلغوا ما يقارب ألف متطوع، معرباً عن تقديره قيمة العطاء الذي ظل يقدمه الشباب القائمون على المبادرة، وأن تلك القيمة جعلتهم ينتظرون قدوم رمضان في كل عام بلهفة، إذ كان يشارك في المبادرة شباب من الجنسين وعدد من المعاقين حركياً، وظلوا يتفانون في هذا المبادرة لكن غابوا هذا العام بفعل الحرب.

أما مطبخ "كلنا قِيم" فيستقبل شهر رمضان بإعداد الوجبات التي يقدمونها للصائمين يومياً، ويقول علم الدين، وهو أحد العاملين في المطبخ، إنهم يجهزون أكثر من خمسة آلاف وجبة يومياً تُقدم في مستشفيات ولاية الخرطوم وفي مدينة ودمدني حاضرة ولاية الجزيرة وفي دُور الإيواء ومواقف المواصلات العامة ولعابري الطريق.

ويشير علم الدين في حديثه مع TRT عربي إلى أن المطبخ يقدم خمسة آلاف وجبة للتلاميذ في المدارس، كما يسهم في تقديم وجبات الأطفال "فاقدي السند" ووجبات للأطفال مرضى الكُلى ووجبات مرافقي المرضى في كل المستشفيات.

ويؤكد أن الحرب أثرت في عملهم، إذ فقدوا جميع ممتلكاتهم التي تعينهم في تجهيز الوجبات وترحيلها في ولايتي الخرطوم والجزيرة، إذ فقدوا السيارات والأواني وثلاجات حفظ الأطعمة.

ويبيّن علم الدين أنهم يعانون الآن كثيراً للبدء في تقديم الوجبات هذا العام، وأنهم وبالشراكة مع برنامج الغذاء العالمي ساعدوا في تقديم المواد الغذائية للسكان في مدينة سنار ومدينة أم درمان، وبدؤوا في تقديم وجبات الإفطار هذا العام في مدينة كوستي جنوبي السودان ومدينة بورتسودان شرقي السودان.

TRT عربي