فوجئ كثيرون بصرامة القيود التي فرضتها بريطانيا للتقليل من أعداد الوافدين إليها، سواء من المهاجرين النظاميّين أو غير النظاميّين.
وبموجب هذه القيود الجديدة، ستُقلَّص أعداد الأشخاص المؤهلين للانتقال إلى البلاد خلال السنوات المقبلة بنحو 300 ألف شخص.
ويشترط على الشركات المستقدِمة للعمّال الأجانب أن تمنحهم راتباً يعادل 38700 جنيه إسترليني (نحو 48 ألف دولار) سنوياً، ليتمكّنوا من الحصول على تأشيرة "العامل الماهر"، بدلاً من 26 ألف جنيه إسترليني (نحو 32 ألف دولار) حالياً.
كما يجب على المواطن البريطاني الراغب في استقدام زوج أو زوجة أجنبية إلى بريطانيا كسب المبلغ نفسه، وهو ما يعادل ضعف الحدّ الحالي المطبّق منذ عام 2012، أي بواقع زيادة تفوق الـ25 ألف دولار.
وهذه الزيادة تشكل بحد ذاتها راتباً سنوياً يتقاضاه مواطنون أو مهاجرون يعملون اليوم في البلاد.
وتأتي القيود الجديدة بعدما كشفت أرقام رسمية أن صافي الهجرة الوافدة ارتفع إلى مستوى قياسي بلغ 745 ألف شخص في عام 2022، رغم الخطاب المتشدّد لحكومة ريشي سوناك المحافظة.
التحكم في الحدود.. وعد المحافظين القديم
يرى مراقبون أن قانون الهجرة الذي سُنَّ في الآونة الأخيرة، لن يكون رادعاً خلافاً لما تقول الحكومة.
ويؤكد محمد أبو العينين، المحلّل السياسي المختص في الشؤون البريطانية، أن حكم المحكمة العليا في بريطانيا، الذي أقرّ بعدم قانونية ترحيل اللاجئين غير النظاميين إلى رواندا، يبدو أنه قد صدم حزب المحافظين.
ويرى أبو العينين في حديثه مع TRT عربي، أن الحزب يودّ أن "يفي بأي طريقة بما تعهَّد به في برنامج الانتخابات التي كسبها عام 2019، عندما وعد ناخبيه بالحدّ من طوفان المهاجرين واللاجئين وضبط الحدود"، لا سيما بعد خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي (بريكست).
لذلك تأتي هذه القيود، كما يرى أبو العينين، كترجمة عمليّة لتلك التعهّدات، لا سيّما أن "ملف الهجرة تسبَّب، في العام الماضي، بمشاكل كثيرة لحزب المحافظين، وأسهم بشكل من الأشكال في تدهور شعبيته لدى الناخبين".
ويضيف المحلل السياسي أن "الحزب يريد مع قرب انتخابات برلمانية، أن يُظهر حزماً وقوة ربما يعيد بها جزءاً من شرعيّته".
بريطانيا.. أول المتضررين
من جهته يرى الدكتور فؤاد عبد الرازق، خبير الشؤون البريطانية أنَّ ما أعلنته لندن من قيود جديدة من شأنه الحد من هجرة العمَّال الأكفاء إلى البلاد، ولا سيما أولئك العاملون في قطاعات تدفع رواتب منخفضة مثل الضيافة وتجارة التجزئة، ما قد يؤدّي إلى نقص مهول في المهارات بهذه القطاعات، وسوف يسهم حتماً في إلزام الشركات برفع الرواتب.
ويشير عبد الرزاق في حديثه مع TRT عربي، إلى أن الرّاغبين في العمل في مجال الرعاية الصحية، قد يُحجمون عن القدوم إلى المملكة المتحدة، وهذا له تأثير ضارّ على خدمات الرعاية الصحيّة وجودتها، بخاصة بالنسبة إلى كبار السنّ وذوي الإعاقة الذين يعتمدون اعتماداً كبيراً على هذه الخدمات.
ويردف: "يجب أن لا ننسى أيضاً أن معوّقات لمّ شمل الأسر قد تؤدي إلى تشتّتها، وقد تكون لها عواقب سلبية على الأطفال وعلى بعض الزيجات".
وفي السياق ذاته، يرى محمد أبو العينين أنّ هذه القيود الجديدة تحيط بها إشكاليات قانونية كبيرة؛ لأنها غير مسبوقة وقاسية وصارمة.
ويبيّن أبو العينين أنّها ستواجه قيوداً وعراقيل قانونية في محاكم بريطانيا، مثل التي واجهتها خطة الحكومة لترحيل اللاجئين إلى رواندا.
ويعلّل ذلك بأن الأمر يتعلّق بالحدّ من الهجرة النظامية أساساً ووضع عراقيل للحدّ من أعداد الوافدين بشكل قانوني، ما قد يؤثر أيضاً على عملية النمو الاقتصادي لبريطانيا؛ لأنه يحدّ من قدرة الشركات على استقدام العاملين.
المتطرّفون: قيود "أقل من التوقعات"
يمثل ملف الهجرة تحدياً سياسياً ضخماً أمام رئيس الوزراء ريشي سوناك وحزب المحافظين، لذلك كثّف النواب المحافظون الضغوط عليه وعلى حكومته لخفض "صافي الهجرة"، أي الفرق بين المقيمين الوافدين والمغادرين للمملكة المتحدة.
ورغم قسوة بنود هذه القوانين الجديدة، إلّا أنها لم تنل إعجاب وزيرة الداخلية السابقة، سويلا برافرمان، التي قالت إنّها جاءت "أقلّ من التوقعات، ولا تلبي طموحات البريطانيين اليوم".
وتداولت وسائل الإعلام المحلية في الأيام الماضية قصصاً لأزواج قد لا يستطيعون العيش معاً في المستقبل القريب بسبب هذه القيود، منها قصة مهندس بريطاني يحصل على ما يعادل 30 ألف دولار، وتقدم لخطبة شابة ماليزية، لكنه يحس أن خطّته للزواج منها ستبوء بالفشل.
كذلك تشعر إحدى البريطانيات اللواتي يعشن في إيطاليا بفقدان الأمل في الرجوع إلى بلدها بعد زواجها من رجل إيطالي، وذلك لعدم قدرتهما على ضمان راتب بمواصفات القيود الجديدة في بريطانيا.
ويرى فؤاد عبد الرازق أن "هذه القوانين ربما تؤدّي إجمالاً إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية، وقد تزيد من صعوبة دمج الأجانب في المجتمع، وهذا يمكن أن يصعِّب على المملكة المتحدة بناء مجتمع متماسك وشامل".
ويلفت إلى أن هناك حاجة "إلى دراسة متأنية وأساليب بديلة لضمان تحقيق سياسات الهجرة، توازناً بين رغبة السيطرة على الهجرة والحفاظ على القدرة التنافسيّة الاقتصادية والتماسك الاجتماعي في بريطانيا".
استهداف المهاجرين غير النظاميين
وتؤكد أرقام رسمية أنّ ما يقدّر بنحو 70 ألف شخص دخلوا بريطانيا بتأشيرات عائلية، في الفترة ما بين يونيو/حزيران 2022 ويونيو/حزيران 2023.
كما أن مكتب الهجرة أصدر أكثر من 486 ألف تأشيرة دراسيّة في ظرف عام واحد، أما بالنسبة إلى تأشيرات العمّال الموسميّين، فقد أصدر 57 ألف تأشيرة لجامعي الفواكه وعُمّال الدواجن.
وكشفت إحصائيات حديثة أن بريطانيا استقبلت نحو مليون مهاجر نظامي من خارج الاتحاد الأوروبي خلال عام واحد، وضمّت قائمة أكبر خمس دول مصدرة لهؤلاء كلاً من الهند ونيجيريا ثم الصين وباكستان و أوكرانيا.
هذه الأرقام كلّها كانت تحت إشراف الحكومة وبرضاها، لكن الهاجس الأكبر يبقى القوارب العابرة لبحر المانش بشكل غير نظامي، إذ بلغت أعداد الوافدين على متنها أكثر من 23 ألف شخص منذ بداية هذا العام.
وقد حاول سوناك جاهداً معالجة الأمر، فمرّر في مجلس العموم يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، نسخة معدلة من قانون ترحيل المهاجرين غير النظاميين إلى رواندا، ليوافق عليها المجلس بأغلبية 313 مقابل اعتراض 269 نائباً، لكن لا تزال أمام هذا القانون عقبات قضائية بعدما تجاوز هذه العقبة البرلمانية.
وكانت المحكمة العليا البريطانية قد قضَت بأنّ القانون الذي سنّته الحكومة لإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا يتعارض مع التزام لندن بحقوق الإنسان؛ لأنه لا يمكن اعتبار رواندا دولةً آمنةً، كما رفض أعضاء المحكمة بالإجماع استئناف الحكومة ضد الحكم.
وتعتبر هذه حالة قلق يعيشها مهاجرون كثر يرغبون في القدوم إلى المملكة المتحدة، لكن المفارقة المثيرة للدهشة أن مغادرة بريطانيا قد غدت أيضاً حلماً لكثيرين مثل حلم الهجرة إليها.
وكشفت مجلة "ذي إيكونومست" البريطانية أن أكثر من مليون شخص دخلوا إلى بريطانيا بين صيف 2021 و2022، لكنْ غادرها نحو 550 ألف شخص هم خليط من أوروبيين عادوا إلى أوطانهم وبريطانيين قرّروا بدء حياة جديدة في مكان آخر.