نشرت جريدة "نيويورك تايمز" تسجيلات قالت إنها لآلاف الاتصالات التي أجراها جنود روس مع أقاربهم وأصدقائهم. (Aris Messinis/AFP)
تابعنا

في أثناء انطلاق هجومها على الأراضي الأوكرانية، في 27 فبراير/شباط الماضي، ركَّزت القوات الروسية جزءاً من قدراتها النارية لاقتحام كييف، عبر تشكيلاتها التي تمركزت في البلدات المحيطة بالعاصمة. كبلدة بوتشا التي تمركزت فيها الكتيبتان 64 مدرَّعة و35 مشاة التابعتان للجيش الروسي.

بعدها بشهر، فشل الهجوم على كييف في مهمة دخولها، فقرر الكرملين سحب قواته من هناك نحو الشرق. ليجري وقتها اكتشاف المذبحة الفظيعة التي شهدتها البلدة الأوكرانية الصغيرة، عبر كم الجثث التي عثر عليها في العراء، معظمها لمدنيين وبعضها مكبل اليدين. وحسب إحصائية السلطات الأوكرانية، بلغ عدد الجثث المعثور عليها في بوتشا يومها 1100، بينهم نساء وأطفال.

حسب رواية كييف، فإن الكتيبتين الروسيتين هما من تقبعان خلف جريمة الحرب تلك. وهو ما رفضته موسكو، معتبرة أن عدوتها في الحرب تلفق لقواتها التهم، من أجل النيل من سمعة الجيش الروسي.

في 28 سبتمبر/أيلول، نشرت جريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية تسجيلات قالت إنها لآلاف الاتصالات التي أجراها جنود روس مع أقاربهم وأصدقائهم، جرى التنصت عليها وتسريبها إلى الصحافة لاحقاً. في هذه التسجيلات، إن صحت، ينكشف الكثير مما كان يدور في البلدة المنكوبة وقت سيطرة الروس عليها، كما يبرز سخط الجنود من الحرب ومن قرارات قيادتهم السياسية في موسكو.

"بوتين أحمق.. إننا نخسر الحرب!"

تقول الصحيفة الأمريكية إن الروس ظنوا في البداية أن سقوط كييف كان مسألة أيام معدودة، غير أن المقاومة الشرسة للأوكرانيين وتسليحهم الغربي المتقدم، حال دون تقدم الجيش الروسي داخل العاصمة، وبقي عالقاً لأسابيع في البلدات المحيطة بها كإربين وبوتشا.

في ذلك الوقت، ظلت الأوضاع على الجبهات ساكنة، ما دفع الجنود أمام ذلك الفراغ إلى خرق التعليمات العسكرية الصارمة، وإجراء اتصالات بالآلاف مع أقاربهم وأصدقائهم. اتصالات رووا فيها تفاصيل ما كان يقع على الأرض، بداية من فشل دخول كييف و"أننا لا يمكن أن نربح هذه الحرب"، على حد قول أحد الجنود لأمه على الجهة الأخرى من الهاتف.

وأخبر الجندي الروسي سيرغي والدته: "أمي، هذه الحرب هي أغبى قرار اتخذته الحكومة"، ويضيف في اتصال هذه المرة مع صديقته، قائلاً: "إنهم يستغبون الشعب على التلفاز، يقولون بأن "كل شيء على ما يرام، إنها ليست حرباً، و كل ما هنالك عملية عسكرية خاصة" لكن في الواقع هي حرب لعينة".

فيما أطلع الجندي نيكيتا صديقاً له عن أن القيادات "أخبرتنا في البداية أننا ذاهبون للتدريب ليومين أو ثلاث، لم يقولوا إننا متوجهون للحرب"، هذا قبل أن يضيف بحسرة: "لقد ضحكوا علينا يا صديقي واستغفلونا كأطفال صغار".

وعن تعثر مسار الحرب، يكشف اتصال أجراه جندي اسمه إليا مع زوجته، قوله: "اللعنة.. ماذا ظل لديهم ليقولوه؟ ماذا ينتظر بوتين لينهي هذه الحرب؟". ترد عليه الزوجة أن "الرئيس قال بأن كل شيء يسير حسب ما كان مخططاً لديه"، يجيب إليا: "لا إنهم مخطئون". وقال سيرغي لأمه: "إن مواقعنا سيئة، لقد تحولنا من الهجوم إلى الدفاع.. الآن هجوماتنا راكدة، لا تحقق تقدماً".

ويسترسل سيرغي في اتصالات أخرى كاشفاً أطوار الحرب وأسباب فشل القوات الروسية، كأن يقول لصديقه: "عدد من القوات الرديفة تمر من أمامنا يجري ضربها مباشرة (من قبل الأوكرانيين)". أو يطلع والده على أن "دباباتنا وحاملات مدرعاتنا تحترق، لقد دمروا الجسور، والطرقات مخربة، لا يمكننا التحرك".

كما تكشف التسجيلات كذلك عن تذمر الجنود الروس من تسليحهم، مثل ما أخبر سيرغي صديقته: "بعض الجنود أخذوا السترات الواقية والخوذ من جثث الجنود الأوكرانيين ليلبسوها.. إن دروع الناتو أفضل من دروعنا". أو قال جندي اسمه رومان: "كل أسلحتنا قديمة هنا، ليست كتلك التي يظهرون لكم على (قناة) زفيزدا".

هذا وحسب المعلومات التي استقتها "نيويورك تايمز" من تحليل هذه التسجيلات، فقد فقد المئات من الجنود الروس حياتهم في تلك المنطقة، من بينهم 600 جندي من كتيبة واحدة للقوات الجوية. يكشف ذلك جزع زوجة الجندي ماكسيم الذي أخبرته: "إن الزوجات مفزعات (من عدد القتلى) إنهم يكتبون رسائل لبوتين".

"لقد أمرونا بقتل المدنيين"

ولم يخف الجنود الروس عن أقاربهم كذلك تفاصيل الفظاعات التي ارتُكبت ضد المدنيين في تلك المناطق. في أدلة حسب الصحيفة الأمريكية تعزز الرواية الأوكرانية لما وقع وقتها في بوتشا، وتحمل الجيش الروسي مسؤولية المذبحة.

في أحد الاتصالات، يقول الجندي ألكسندر لأحد أقاربه: "لقد كنا نسير بالسيارة في وسط المدينة (بوتشا) عائدين إلى مواقعنا، رأينا الجثث منتشرة في الطرقات، لم تجد أحداً ليدفنها.. قلت لك إنها جثث لمدنيين، كانت منتفخة وملقاة على الطريق، وما من أحد ليدفنها!".

وفي تسجيل آخر، يخبر سيرغي صديقته، بأنهم قبضوا على مجموعة مدنيين أوكرانيين، وبعد أن عروهم من ملابسهم وفتشوهم، كان عليهم أن يقرروا ما إذا كانوا سيطلقون سراحهم أم لا. يقول الجندي: "لو كنا أطلقناهم لأفشوا مواقعنا (للقوات الأوكرانية) لهذا تقرَّر إطلاق النار عليهم في الغابة". تسأل الصديقة بسذاجة: "لمَ لم تبقوا عليهم كأسرى؟"، يجيب سيرغي: "لو أبقينا عليهم لكان واجباً علينا إطعامهم، في حين لم نكن نجد نحن ما نأكل".

"ولقد كنا ذاهبين إلى إحدى المناطق، وقالوا لنا إن هناك عدداً كبيراً من المدنيين يتجولون في الأرجاء، وأعطونا الأوامر لقتل كل من وقعت أعيننا عليه، لأنهم قد يخبرون بمواقعنا وتحركاتنا القوات الأوكرانية.. وبعد ذلك قالوا لنا بأنه يمكننا سحب الجثث إلى الغابة حيث لا يمكن أن يراهم أحد وتركها هناك. لقد أصبحت قاتلاً، لا أريد أن أستمر في قتل أي أحد بعد الآن" يضيف سيرغي لصديقته.

بعدها بأيام أخبر المجند ذاته والدته: "توجد غابة حيث مركز القيادة، كنت أتمشى داخلها ورأيت بحراً من الملابس المدنية الملقاة، لم أرى شيئاً بهذا الحجم من قبل، إنه عدد هائل من الجثث ملقاة على مد البصر".

هذا واستغرق أمر تدقيق كل هذه الاتصالات، التي تسلمتها الصحيفة الأمريكية من الاستخبارات الأوكرانية، إضافة إلى ترجمتها وتحريرها، حوالي شهرين. ونجح الصحفيون في تحديد هوية الجنود والأجهزة العسكرية التي يخدمون فيها، فيما تحفظوا على الكشف عن تلك المعلومات حفاظاً على سلامتهم الشخصية.

TRT عربي