أنظمة دفاع جوي S-400 روسية رُصدَت في منطقة كالينينغراد في فبراير/شباط الماضي.  (File/Reuters)
تابعنا

تمثّل منطقة كالينينغراد الروسية، الواقعة وسط الأراضي الأوروبية على ساحل بحر البلطيق، أهمية جيوستراتيجية بالغة للسلطات في موسكو، خصوصاً بعد هجومها العسكري الجاري في أوكرانيا، وتوسُّع الناتو إثر ذاك على حدودها بطلب فنلندا والسويد الانضمام إلى الحلف.

غير أن الأهمّ لروسيا هو ممر سوالكي، البالغ طوله 65 كيلومتراً، على الحدود بين بولندا ولتوانيا، ويربط بين كالينينغراد وبيلاروسيا حليفة موسكو، لما يمنحه للروس من إمكانية عزل دول البلطيق عن باقي أوروبا، وتأمين خطوط إمدادها لكالنينغراد، وكبح توسع الناتو شمالاً.

من جهة أخرى يمكن لهذا الممر أن يكون فرصة الناتو لمحاصرة كالينينغراد، وخنق التحركات العسكرية الروسية في بحر البلطيق، مما يضعه في عمق تنافس يشتدّ، مهدّداً بنشوب صراع مسلح بين الجانين إذا سارع أحدهما إلى جذب الزناد هناك.

ماذا يعني لروسيا اضمام فنلندا والسويد إلى الناتو؟

في 24 فبراير أطلقت روسيا عملية عسكرية واسعة في أوكرانيا، قالت إنه يهدف إلى كبح توسع الناتو على حدودها الغربية، بعد أن أبدت كييف نية الانضمام إلى الحلف، مما سبّب ردّ فعل عكسياً بمنطقة شرق أوروبا وشمالها، ودفع دولاً كالسويد وفنلندا تحت طائلة هذا التهديد العسكري، إلى التخلي عن حيادها وطلب الانضمام إلى الحلف رسمياً.

يمثل دخول فنلندا إلى الناتو تهديداً استراتيجياً كبيراً لروسيا، فرغم أنها تشارك مقطعاً حدودياً صغيراً مع النرويج إحدى دول الحلف، فوجود قوات تعتبرها "معادية" على طول 1300 كيلومتر من الحدود يُضعِف دفاعاتها ضد أي هجوم بري من الشمال، مع صعوبة تضاريس تلك المنطقة المتجمدة الغنية بالبحيرات والمجاري المائية من الناحية الفنلندية.

تهديد آخر، إذ دأبت السياسات الدفاعية الروسية على حشد القسم الأكبر من ترسانتها النووية في شبه جزيرة كولا، أقصى شمال غرب البلاد. كما تضمّ القاعدة البحرية في شبه الجزيرة أسطولاً من خمس غواصات "ديلتا 4"، وغواصتين من أحدث نسخة لطراز "بوروي" الاستراتيجية النووية. فانضمام فنلندا إلى الناتو يجعل شبه الجزيرة، التي لا تبعد عن حدودها إلا 100 كيلومتر، قابلة للحصار وتحييد خطورتها عند نشوب أي نزاع مسلح.

في حين أن الكلمة المفتاح لخطر انضمام السويد إلى الناتو على روسيا هي جزيرة غوتلاند، التي تقطع الممر البحري الوحيد أمام أسطول البلطيق الروسي نحو الغرب، وبالتالي يحدّ ذلك من أنشطة البحرية الروسية في بحر البلطيق، ويمثل تعزيز الدفاعات الجوية للناتو في تلك المنطقة حاجزاً استباقياً لأي تحرُّك عسكري جوي لروسيا وحلفائها.

دفع هذا الكرملين إلى إعلان رفضه انضمام الدولتين إلى الحلف، إذ أبلغ فلاديمير بوتين الرئيس الفنلندي سولي نينيستو، أن انضمام بلاده إلى الناتو "سيكون خطأً كبيراً". وقال نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر جروشكو، إنه "لا يمكن لانضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) أن يمر بلا ردّ فعل سياسي"، حسب وكالة سبوتنيك الروسية.

ممر سوالكي.. جواب موسكو على التهديد

كل هذه المعطيات التي تدخل دائرة الحسابات الروسية مع إعلان فنلندا والسويد انضمامهما إلى الناتو، تجعل ممرَّ سوالكي، الرابط بين بيلاروسيا وكالينينغراد، شديد الأهمية لموسكو، وهو ما عبّرَت عنه القناة الحكومية الروسية الأولى على لسان أحد محلليها بقوله: "مسألة ممر سوالكي أصبحت أكثر إلحاحاً، هناك بولندا ولتوانيا اللتان تعاملان روسيا بعجرفة، ويمكننا إنهاء هذا الأمر أسرع من أوكرانيا".

حسب دراسة لمؤسسة "راند" للأبحاث الاستراتيجية، فإن وضع روسيا يدها على ممر سوالكي سيقطع دول البلطيق وبولندا عن حلفائها، ويعزل المنطقة الشمالية للناتو ويشلّ الاتصالات ويعقّد المساعدات إليها، مما سيساهم في احتمالية سقوط عاصمتَي إستونيا ولاتفيا في غضون ستين ساعة. كما يمكن لأنظمة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة أن تشلّ المجال الجوي في دول البلطيق وبولندا.

وفي سنة 2018 كان القائد السابق للقوات الأمريكية في أوروبا بين هودجز نبَّه من أن "ممر سوالكي هو حيث تلتقي كل ثغرات الاستراتيجية الدفاعية لحلف الشمال الأطلسي"، مجادلاً بأن طلب بولندا إقامة قاعدة عسكرية دائمة للقوات الأمريكية على أراضيها قد "يقوّض تماسك الحلف"، لما يمثّله من تهديد بنشوب صدام مسلح مع روسيا، التي تمتلك أفضلية عسكرية هناك.

وتكمن الأفضلية العسكرية لروسيا في ممر سوالكي، حسب دراسة نشرتها صحيفة "الدراسة الدولية" المحكَّمة سنة 2019، في قدرتها على توفير القوة العسكرية الضرورية لأي عملية عسكرية في ممر سوالكي، والحفاظ على خطوط إمدادها سليمة، بل وتحريكها ونشرها بشكل أكثر سلاسة. وتخلص الدراسة إلى أنه "في حال التصعيد العسكري بالمنطقة قد تكون الأفضلية لروسيا، والعكس للناتو".

هذا لأن الممر واقع بين فكَّي كماشة، أحداهما كالينينغراد حيث تنشر روسيا، حسب الأرقام الغربية، نحو 200 ألف من قواتها وعدداً من بطاريات الدفاع الجوي S-400 وS-300، ومنظومة صواريخ "إسكندر-إم" الباليستية التي تشكّل عنصر الهجوم البري والبحري الروسي بعيد المدى، إضافة إلى قاعدة باتييسك البحرية حيث يتمركز أسطول البلطيق الروسي دائماً.

وعلى فكّ الكماشة الثاني تقع بيلاروسيا، حليفة موسكو الوثيقة، التي مثّلَت أراضيها قاعدة لانطلاق الهجوم الروسي على أوكرانيا. وقبل ذلك الهجوم قالت تقارير أمريكية إن روسيا تسعى لنشر 30 ألفاً من جنودها في بيلاروسيا، وهو ما حذّر منه وقتها جوستاف جريسيل، الباحث المختصّ في شؤون أوروبا الشرقية بمعهد المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، في هذه المؤشرات بأن "أراضي بيلاروسيا ستصبح باطّرادٍ مصدراً للتهديدات العسكرية لجميع جيرانها الغربيين".

TRT عربي