تابعنا
كل حاكم يسعى إلى شرعنة سلطته بالاستعانة برجال الدين، والعسكر، والمفكرين المطبلين له ولحكمه. ويغفل هذا الحاكم عن الشرط الأساسي في شرعية الحكم ألا وهو العدل.

في الليلة الظلماء يُفتقد البدر، وفي ليلنا العربي الطويل، يُفتقد التنوير والتغيير والصدح بالحقيقة، ففي كثير من الأحايين يغيب الصوت الآخر، ويتعالى في كل المنابر الخطاب الاحتفائي التمجيدي، الذي يوهمنا أننا عبرنا نحو الديموقراطية المكتملة، وأننا نفيد من خيرات البلاد وننعم بها، وعندما نستفيق من فعل هذه الحقن السياسية، نُلفي أنفسنا نراوح أمكنتنا ما بين الثورة والاستبداد، فما أن نفرح قليلاً بسقوط الديكتاتوريات، حتى تتجذر البنى القديمة ويعاد إنتاجها في صور جديدة، بشكلانية مفرطة وجوهر قديم، وذلك كله بسبب الخدمات الجليلة التي يقدمها آل العمائم والسيوف والأقلام، على درب الشرعنة والتبرير.

فلم يتحقق الحكم والتحكم في كثير من البلاد العربية، إلا بفضل هذه الثلاثية المفتوحة على العمامة والسيف والقلم، وذلك في تأشير مباشر على الدين والعسكر ووعاظ السلاطين ممن جعلوا الفكر في خدمة من يدفع أكثر وأحسن.

فالحاكم كان ولا يزال، في حاجة إلى من يشرعن وجوده ويبرر استبداديته، ويقوى من شُهُودِهِ وفارقيته، لتكريس سلطاته وتأبيدها، وهنا يصير أصحاب العمائم وآل السيوف والدروع وآل صناعة "الحروف"، أكثرَ مطلوبيةٍ في سياقات بناء الدول وتأمين انتقالاتها.

لقد أوضح ابن خلدون في مقدمة كتاب العبر بأن "السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بهما على أمره"، ويُدبر بهما أحوال العباد والبلاد، لأجل تحقيق الإجماع والطاعة، وهو ما يصير ممكناً بواسطة العمامة التي يعتمرها "رجال الدين"، ممن يدورون في فلك السلطان ويغنمون من مآدبه وولائمه.

ففي كل الأنساق تزداد الحاجة إلى الجهازين القمعي والإيديولوجي، فالأول يدل على المؤسسات التي تحتكر "العنف المشروع"، والثاني يهم الأبنية الثقافية والدينية والسياسية التي تختص بالتطبيل والتزمير دفاعاً عن أطروحة الاستقرار والخير والنماء.

تقتضي سياقات الحكم والتحكم الاستنجاد بالعمامة حيناً والسيف أحياناً كثيرة، والقلم في مستويات أخرى، فكل طرف يُفيد في وضعيات وتنتفي الحاجة إليه في أخريات، وعلى درب الاستحضار أو التجاهل تتأسس المكانات ويتحقق الكسب ويحدث القرب الذي يوجب القربانية.

ذلك أن الغاية القصوى لكل حاكم هي المزيد من الإخضاع، والذي يُترجم موالاةً وإجماعاً وولاءً، والمطلوب من "آل العمامة" العمل باستمرار على تأويل النص الديني وفق ما تقتضيه الضرورات التحكمية، وهو ما لاح قوياً في استعانة الأمويين والعباسيين مثلاً بالفرق الدينية لمواجهة الخصوم والرفع من أسهم المشروعية.

أما الاعتماد على "آل السيف" فتكشفه مركزية المؤسسة العسكرية والأمنية في مختلف الأنساق العربية، فهي جزء أو كل من المشكل والحل في الآن ذاته، فقد يرحل الرؤساء وتتم الإطاحة بهم، إلا أن "نظام السيف" حي وباقٍ، ولو تعلق الأمر بثورات، كما في السودان ومصر والجزائر.

فالسّيف، برأي ابن خلدون، هو "شريك في المعونة، تحتاج الدّولة إلى الاستظهار بأرباب السّيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدّولة والمدافعة عنها، ويكون أرباب السّيف أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعاً".

ولهذا يفهم كيف لا يقبل العسكر بالبقاء خارج اللعبة السياسية، ولا بالاكتفاء بدور حيادي تجاه ما يحدث من تحولات واعتمالات، فالمصالح تُحرك الأطماع وتقود إلى اغتيال الإشراقات الديموقراطية التي تعول عليها الجماهير في إحداث القطائع وبناء الأوضاع العادلة.

وبالنسبة للقلم، فالتراث العربي الإسلامي مليء بالآداب السلطانية التي "تُعلم" الحاكم كيف يستجلب الطاعة ويقمع ممكنات الخروج عليه. كما أنه ضَاجٌّ بالشعر التَكَسُّبِي الذي اختص في المدح والتمجيد، فالقلم يصير هو "آلة الحكم والمعين لتحصيل ثمرات الملك من الجباية والضّبط وتنفيذ الأحكام والنّظر إلى أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله" وفقاً لما اهتدى إليه صاحب علم العمران البشري.

لربما تكشف لنا حكاية "السلطان والشاعر والباذنجان"، ما يختص به "المَدَّاحُون" من آل القلم، وما يُدمنونه من "نفاق" في سبيل إرضاء الحاكم. تقول الحكاية إن سلطانا من الحالة العربية رغب في تغيير رتابة الخَوَانِ السلطاني، فما كان من طباخه إلا أن اقترح عليه منوعات من الباذنجان، فأكل منها كثيراً وأعلن افتتانه بها، وكان شاعر البلاط حاضراً، فسارع إلى نظم قصيدة عصماء فى مدح الباذنجان وفضائله، وفي اليوم التالي جِيءَ بالباذنجان في تشكيلات جديدة، لكن السلطان أبدى امتعاضه ولم يأكل، لينطلق الشاعر إياه، في نظم قصيدة أخرى في ذم الباذنجان وهجائه. حينها سأله السلطان: أيها الأحمق مدحت الباذنجان بالأمس، فما بالك تهجوه اليوم؟ فأجاب: أنا شاعر السلطان ولست شاعر الباذنجان.

تتكرر ذات الحكاية بصيغ متعددة في الهنا والهناك، بالعمامة والسيف والقلم، لشرعنة أوضاع ومعاكسة تيارات تغيير وتجاوز، لتصير الثقافة الباذنجانية سدًّا منيعا ضد كل من سولت له نفسه الخروج عن "القطيع" والسباحة ضد التيار.

ذلك أن تُهم التخوين والعمالة للخارج والتيئيس وتبخيس مجهودات الدول، جاهزة لمواجهة المعارضين والغاضبين والمحتجين على سوء الأحوال المجتمعية.

إن الشرعنة ها هنا، ووفقا لـ"آل الباذنجان"، تتوسل في اشتغالها بتدعيم مبادئ أساسية تتوزع على التفويض الإلهي، بمعنى أن السلطان هو ظل الله في الأرض، وهو ما يوجب الطاعة المفروضة كمبدأ ثانٍ، مع واجب الاعتقاد في عدله وإحسانه في مستوى ثالث، وملحاحية التخلص من كل خارج عن الإجماع والطاعة ودار الإسلام في مقابل دار الكفر، كعنصر رابع وأخير، وكلها أساسيات مركزية للحكم والتحكم، تُفيد في إعادة إنتاج القائم من أوضاع.

فكيف السبيل إلى الانتهاء من ثلاثية الباذنجان، لأجل استنبات بنية تحريرية مضادة، أبطالها فقيه متنور وعسكري مواطن ومثقف عضوي؟

جدير بالذكر أن العماد المتين للدولة الحديثة هو العدل في مختلف فُهُومِهِ وتفريعاته، فمتى استشعر الناس عدلاً، ما عادوا بحاجة إلى أجهزة قمعية أو إيديولوجية لإجبارهم أو إيهامهم بالاعتقاد في مشروعية الحكم، فالواقع آنئذ أصدق أنباءً من السيوف والأقلام والعمائم المسخرة للتجييش والتبرير. وبالطبع فما يمكن أن ينفقه الحاكم عدلاً يظل أقل بكثير مما يُهدره إقطاعاً وإنعاماً على وُعاظهِ ونُدمائه ومُبْسِطِيه وشعرائه وباذنجانه.

إن العودة إلى الشعر التَكَسُّبِي تؤكد أنه لا يكاد يستقر على حال، وأنه مُنتهٍ إلى زوال وانقلاب، مع كل انتقال مُلك أو استخلاف، أو حتى مع بدايات انحسار الإنعام والقرب، فقد دلت الشواهد التاريخية أنه يتحول إلى مقام الهجاء والجحود مع انتفاء المصلحة المرسلة، وهو أمر موجب للحذر من "صدقيته" المزيفة، وكذا لعدم الانخداع به خلال أمجاد الحكم وسطوته، فالذين دافعوا عن الناصرية سرعان ما انقلبوا عليها وطبلوا لـ"سلام" السادات، مثلما تفننوا في عبادة مبارك، وانتصروا بعدًا للثورة، لينتهوا ممجدين لعودة الجيش مع صعود نجم السيسي.

وعليه فالحكم العادل ليس بحاجة إلى قَعقعة السيوف ولا تَسييس الدين أو تزييف مداد الأقلام، إنه بحاجة إلى الديموقراطية خطاباً وممارسة، أفقاً واشتغالاً، إنه بحاجة إلى اقتسام عادل لخيرات البلد وعوائد التنمية بين مختلف الحساسيات، والتشكيلات الاجتماعية، فمتى كانت الأوطان تتنفس الديموقراطية في سائر الأحوال والمراتب والمقامات، ما كان الحاكم مضطراً إلى طلب خدمات "كلاب الحراسة" ولا غيرهم من المهرجين والمتلاعبين بالعقول.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي