تابعنا
لربما لم يتوقع "المُطَبِّلُون" لعولمة الرأسمال، من آل الليبرالية المتوحشة، أن تخون العولمة نصها الأصلي، وأن تنتقل من سيرورة اقتصادية صرفة إلى سياق تحولي يتضمن انتقال الأفكار والمشاعر والاحتجاجات.

فمن تشيلي إلى هونغ كونغ، وتحديداً من الأقصى إلى الأقصى، لا دليل إلا على انهيار الحواجز والفروقات بين المحلي والكوني، في مستوى رفض"الحكرة" أي الاحتقار والمطالبة بالعدالة والحرية والكرامة.

يوماً ما شَبَّهت ساسكيا ساسن العولمة بـ"حصان يصول بقوة وسرعة متعاظمة"، ولا يترك حتى لِقَادَتِهِ ومُلَّاكِهِ الفرصة لتخمين المآلات المخطط لها قبلاً، فالأطروحة المؤسِّسة للخطاب العولمي تنبني على "تنميط" الشعوب وإخضاعها لمنطق واحد وهو الرأسمال، وهو ما ينكشف في مسالك الإفراط في التَقْنَنَةِ وتَذْرِيرِ المجتمع ونفوذ الميديا وهيمنة سلطة المال، ما يقود نهايةً إلى اللا عدالة واللا مساواة، ويؤجج بعداً ممكنات الرفض والاحتجاج.

لقد جرب العالم النسخة الأولى من عولمة الاحتجاج خلال ربيع الشعوب ذات زمن ستيني من القرن الفائت، ففي انتفاضات الشباب التي اجتاحت العالم خلال سنة 1968، التي انتقلت "عدواها" من قارة إلى أخرى، على الرغم من محدودية الميديا آنئذ، تأكد للجميع أن الأفكار والمشاعر واليوتوبيات الجميلة غالباً ما تجد لنفسها مسالك العبور من مجال إلى آخر، ومن غير قيد أو شرط، وأنها قادرة على تغيير المواقف والخطابات والممارسات.

ولأن الليبرالية المتوحشة راغبةٌ أبداً في إحكام السيطرة على الشعوب والدول، عبر أربع آليات على الأقل، وهي: عولمة الاقتصاد، ودفع الدول إلى السباق نحو التسلح، وتعميم النموذج السياسي الغربي، وتجذير سلطة الميديا، فإنها ستستثمر أكثر فأكثر في هذه الرباعية المؤسِّسة للعولمة خطاباً وممارسة، مخافة سقوط الديكتاتوريات المتواطئة معها، والمنفذة لتعليماتها بأمانة وخضوع تَامَّيْنِ.

ومع ذلك، فمهما أمعن الجلاد في إحكام القبضة، فإن للشعوب رأياً آخر، ففي بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، لاحت من جديد طبعة جديدة من ربيع الشعوب، تتواصل نسخةٌ مغايرة منها آناً عبر مختلف أرجاء المعمورة، لتأكيد أن العولمة لا تتضمن فقط إشاعة الحزن كما حدث مع موت الأميرة ديانا، ولا إشاعة الإعجاب وتنميط الأذواق كما يحدث مع معبودي نجوم الكرة والغناء والطبخ، أو تَنْحَدُّ عند سطوة الشركات العابرة للقارات والرساميل المفككة للثقافات، ولكنها، وهذا هو الأهم، تقود إلى عولمة السخط والممانعة والصمود.

فلا يمكن بالمرة أن نكتب النص الديمقراطي بأقلام انغمست تاريخياً في محبرة الاستبداد.

عبد الرحيم العطري

إن سلطة الميديا التي أنتجتها العولمة هي ذاتها التي تغذي الاحتجاجات في العالم، وتُيَسِّرُ للمحتجين إمكان الاستفادة من "التجارب الاحتجاجية" الأخرى، وإيصال الرسائل واستقطاب المؤيدين، إنها تتجاوز بذلك شروط إنتاجها الأولية إلى تحقيق نوع من الشيوع والاتساع الكيفي والكمي في آن، لِتُعَبِّرَ للعالم، وليس للنظام المحلي المحتج عليه، أن الثقة في النموذج السياسي القائم هي تحت الصفر، وألا حَلَّ لتغيير الحال سوى التعاقد من جديد، على درب التوزيع العادل للثروة والسلطة والتفاوض بشأن القيم الموحدة.

لعل الرسالة الأكثر دلالة التي يوجهها الاحتجاج المعولم في المغرب وتونس والجزائر ولبنان والعراق وباقي الدول الأمريكية والآسيوية، تُختزل في العبارة التالية: "لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين - no democracy without democrats"، فلا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل منظومات استبدادية، تارة باسم الدين أو الأيديولوجيا وتارة باسم الاقتصاد والتقنية، ولهذا فالنص الموحد لهذه النسخة من الاحتجاجات هو رفض القائم كلياً، لأجل إعادة بناء سياق مختلف، عنوانه العدالة والكفاءة والاستحقاق.

بما يعني أن عمليات التجميل التي تطرأ على الحكومات بسبب الضغط الجماهيري لن تقنع المحتجين ولن تجعلهم يصدقوا أن تغييراً قد تحقق، فلا يمكن بالمرة أن نكتب النص الديمقراطي بأقلام انغمست تاريخياً في محبرة الاستبداد.

إن العولمة، وفقاً لهذا التخريج تشكّل فرصةً وتهديداً في الآن ذاته، فقد مكنت الشعوب من "عولمة سخطها" وتوسيع مداه إلى الدرجة التي باتت فيها الأنظمة الاستبدادية مهددة بالفضح والسقوط، عن طريق تدوينة أو تسجيل أو حتى تغريدة.

فما عاد المواطن بحاجة إلى بيانات نارية سرية ولا إلى خلايا حزبية، فقط تكفيه جرعة كهرباء وصبيب نت، لجعل رئيس الجمهورية يرد عليه كما حدث مع المقاول المصري محمد علي.

أما التهديد الذي تحتمله العولمة، فهو يهم صرحها الاقتصادي الذي يغدو مفككاً وهشاً بسبب قرارات الليبرالية المتوحشة التي ترغب دوماً في تحقيق ربح سريع، ولو على حساب "الاجتماعي"، ما يدفعها إلى المزيد من "التضريب" و"الزيادة في الأسعار" و"التراجع عن المكتسبات"، وهو ما يدفع المتضررين إلى الاحتجاج وتعطيل دورات الإنتاج والاستهلاك، ما يجعل أنظمة "الاستبداد الاقتصادي" تُراكم الخسارة تلو الأخرى.

إن العولمة تأكل نفسها وتحطم ذاتها بذاتها، والدليل على ذلك أن أغلب الاحتجاجات التي تتواصل الآن، والتي تضرب الرأسمال العولمي في مقتل، هي ذات أسباب اقتصادية مباشرة، ذلك أن النقطة التي أفاضت الكأس في لبنان هي تضريب اتصالات الإنترنت المجانية، وهو ما تكرر في سانتياغو عبر الزيادة في تذاكر المترو، وكذا في فرنسا من حركة السترات الصفراء، التي الْتأمت في البدء من رفض الضريبة على الوقود لحماية البيئة، وأخيراً مع إصلاحات نظام التقاعد.

إن الصراع حول مجالات السلطة هو أشد الصراعات ضراوة وعنفاً.

عبد الرحيم العطري

فالاقتصادي في كل هذه النماذج الاحتجاجية كان داعياً إلى التظاهر والمطالبة بالتغيير، علماً أن هذا البراديغم الاقتصادي هو أساس العولمة ورهانها الأهم. ويمكن أن نستدل على أن العولمة في صيغتها الليبرالية المتوحشة تقود نفسها نحو الهاوية، عبر استحضار نماذج احتجاجية من هونغ كونغ وبوليفيا والعراق والجزائر، بتوكيد المحرك السياسي لهذه الاحتجاجات، فالمشترك في الهنا والهناك هو فقدان الثقة في أنظمة سلطوية مهترئة، همها الأساس هو السباق نحو التسلح وتأبيد الاستبداد، ما دفع الشعوب إلى الاحتجاج والمقاومة لتغيير واقع قرر عدم الارتفاع.

إن احتلال المجال العام كشكل احتجاجي، يعبر عن "مطالبات سياسية" بإعادة تقسيم المجال السياسي والاقتصادي تحديداً، فالشارع في المخيال هو ملك للدولة، وفيه تعبر عن وجودها واحتكارها للعنف المشروع.

وعندما يحتل المحتج الشارع ويمنع حركة المرور ويقيم وفيه ويعتصم فيه ويجعله جزءاً من فضائه الحميمي والجمعي، فإنه يُربك التصور الدولتي على الأقل ويزاحم السلطة في "مجالها" المخصوص، ويدفعها إلى الاعتراف بضرورة تقاسم المجال وإعادة ترتيب العلاقات والسلط التي تجري فوق المجال ذاته.

وبالطبع، ولأن السلطة الاستبدادية تحديداً تعتبر "انتهاك" المجال العام انتهاكاً مباشراً لهيبتها وتعدياً على أحوازها السلطوية، فإنها لا تتردد في مواجهة "المحتلين" بخراطيم المياه والعصي والرصاص المطاطي، وحتى الذخيرة الحية، ذلك أن الصراع حول مجالات السلطة هو أشد الصراعات ضراوة وعنفاً.

لقد أكدت النصوص المبشرة بخيرات العولمة أن تراجع الجمعي وبروز الفرد واتساع المجال العمومي، كلها عناصر دالة لتأكيد أن العولمة بخير، وأنها ستقود المواطن إلى الإفادة من ثمرات الحرية والمساواة والكرامة.

لكن الثابت اليوم، وفي جميع الاحتجاجات من الغرب البعيد إلى الشرق الأقصى، هو أن المواطن المغلوب على أمره لم يعد يجد سوى الساحات ليحتلها ويعلن من خلال عن صرخاته/آهاته/زفراته، التي اتخذت عبارات شتى، من قيبل: "باراكا"، "ارحل"، "Basta"،" Podemos" ،"gameover"، "we can"، "لا للتوريث"، "لا للحكرة"، "لا للطائفية"، آملاً في كل صرخاته أن يجد السلطة (الصاغية) لا الطاغية، التي قد تقبل بالرحيل وإنهاء المأساة/الملهاة. فهل من آذان (صاغية)؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي