وزيرة خارجية جنوب إفريقيا ناليدي باندور (يمين) ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين (يسار) يحضران جلسة افتتاح حوار استراتيجي في وزارة العلاقات الدولية والتعاون بجنوب إفريقيا. أغسطس 2022 (Getty Images)
تابعنا

وسط عالم يحبس أنفاسه مع الحرب في شرق أوروبا وتداعياتها التي بدأت التمدد بعيداً عن جبهات القصف المتبادل، أصدرت واشنطن في الثامن من أغسطس/آب الحالي "استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء"، في سياق لا يمكن فصله عن الصراع الجيو-سياسي المستعر بين المعسكر الغربي وكل من روسيا والصين.

من قلب جامعة بريتوريا في جنوب إفريقيا أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن المحاور الأربعة للاستراتيجية الجديدة، التي تركز على تعزيز الانفتاح بما يتيح للأفراد والمجتمعات والدول اختيار طريقهم الخاصّ، وتعزيز التحول الديمقراطي في القارة، بجانب التعافي من آثار كوفيد-19 الكارثية، ومواجهة التغيرات المناخية والانتقال إلى الطاقة النظيفة.

يأتي هذا الإعلان ضمن زخم دبلوماسي أمريكي لافت في القارة، شهد زيارات متتابعة لثلاثة مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى خلال أقل من شهر، إذ هبطت طائرة كل من سامنثا باور مديرة برنامج الإغاثة الأمريكية، وليندا توماس غرينفيلد سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة، وأنطوني بلينكن وزير الخارجية، في جولات إفريقية مختلفة.

تُعَدّ هذه الاستراتيجية امتداداً للتحوُّل في رؤية واشنطن لدورها في إفريقيا الذي بدأه الرئيس السابق دونالد ترمب مع إعلان إدارته عام 2017 استراتيجيتها الإفريقية التي مثلت قطيعة مع سياسة الانسحاب التي اعتمدها الرئيس الأسبق باراك أوباما، إذ سعى ترمب حينها لتعزيز انخراط أكبر في سياسات القارة السمراء مدفوعاً بالرغبة في مواجهة نمو النفوذ الصيني والروسي، وهو ما يبدو أنه حاضر بقوة أيضاً في أذهان صانعي القرار في واشنطن هذه المرة أيضاً.

روسيا وعسكرة النفوذ

شبح روسيا حاضر في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، إذ ذُكرت سبع مرات في سياق التنديد بنشاطها السلبي في مجالات التدخل العسكري والتضليل المعلوماتي وتداعيات غزو أوكرانيا الكارثية على الدول الإفريقية على أكثر من صعيد.

وتتّسم سياسات موسكو تجاه إفريقيا بالاعتماد على الأنشطة العسكرية بأشكالها المتنوعة، إذ تُعَدّ أكبر مصدّر للسلاح إلى القارة الإفريقية خلال العقد الماضي وفقاً لبيانات معهد ستوكهولم الدولي للسلام، في حين تتمدد شركاتها الأمنية الخاصة، وفي مقدمتها مجموعة فاغنر، في مجموعة من الدول الإفريقية كالسودان ومالي وليبيا وغيرها، حيث تقترب موسكو من بناء "ممر" لنفوذها يمتدّ من شرق القارة إلى غربها.

هذا التركيز الروسي على القوة الصلبة يمكن عزوه إلى افتقار موسكو إلى أدوات القوة الناعمة القادرة على التأثير الفعال، لكن غير المباشر، فأي نموذج سياسي مُغرٍ للحكم، مثلاً، من الممكن أن تقدّمه موسكو لقارَّة يرفض أكثر من 70 في المئة من أبنائها الحكم العسكري، وأكثر من 80 في المئة يرفضون حكم الرجل الواحد، وفقاً لاستطلاعات مركز "أفروباروميتر"؟

من خلال استراتيجيتها الجديدة تحاول الولايات المتحدة دعم النموذج الديمقراطي المأمول، بالتعهد بالسعي إلى وقف مدّ الانقلابات ودعم المؤسسات القارية ومؤسسات المجتمع المدنية لتعزيز القيم الديمقراطية ومنح الأولوية لموارد مكافحة الإرهاب بما يعزز الأمن والاستقرار الضروريين لتنشيط التحول الديمقراطي.

وفي مقابل التوسع العسكري الروسي تعلن واشنطن مروحة من استثماراتها المستقبلية في قطاعات عسكرية أمنية تمتدّ من دعم البرامج التي ترسّخ بناء القدرات المؤسسية ضمن الهياكل العسكرية الإفريقية ومكافحة الفساد، إلى توسيع التعاون الدفاعي مع الشركاء الاستراتيجيين "الذين يشاركوننا قيمنا وإرادتنا لتعزيز السلام والاستقرار العالميَّين".

غير أن الإعلان الأمريكي يستدعي التساؤلات حول قدرة السياسية الأمريكية على الصمود أمام إكراهات السياسة الواقعية عند محاولة الجمع بين رغبتها في تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية ومتطلبات دعم الديمقراطية حين التعامل مع قارة أغلب أنظمتها دكتاتورية، إذ ستتعرض هذه الاستراتيجية لامتحان قريب أواخر هذا العام مع إعلان أسماء الزعماء المدعوين إلى القمة الأمريكية-الإفريقية التي تتضمن "الالتزام تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان" ضمن بنود أجندتها الرئيسية، فكيف يمكن تجاوز حليف وثيق لواشنطن كالرئيس الأوغندي يوري موسيفيني الذي يحكم بلاده منذ 36 عاماً وسجله الحقوقي يشوبه كثير من الاتهامات؟

عسكرياً تبدو استراتيجية الولايات المتحدة في مواجهة امتحان آخر متعدد الوجوه، إذ أدى فشل حلفائها الأوروبيين في منطقة الساحل ليس إلى التشكيك في جدوى المقاربات الغربية في مواجهة التمردات العنيفة في المنطقة، بل إلى التوجه نحو الاستعانة بمرتزقة فاغنر التي أثبتت نجاعتها النسبية، في حين ترافق ذلك مع انقلابات عسكرية تمدّ يد التعاون إلى موسكو في دول كمالي على سبيل المثال.

من جهة أخرى يضع التزام الولايات المتحدة تعزيز الديمقراطية كأولوية، ولو نظرياً، واشنطن في مأزق تجاوزته موسكو التي لا تكترث لطبيعة نظام الحكم عند بيع الأسلحة مثلاً، وهو ما يمنحها ميزة تفضيلية لدى الحكام الأفارقة، ونفوذاً استراتيجياً متزايداً، في حين يواجه البيت الأبيض، من جديد، مأزق التوفيق واقعياً بين الشقّين السياسي والعسكري لاستراتيجيته الجديدة.

بكين همّ واشنطن الأكبر!

ليست روسيا الهمّ الإفريقي الوحيد لواشنطن، إذ تبرز الصين التي تتمتع، على عكس موسكو، بملاءة مالية كبرى منحتها القدرة على توسيع نفوذها في إفريقيا عبر سياسة الإقراض والشراكة في مشاريع تنموية ضخمة، تركزت في تطوير البنى التحتية الإفريقية، إذ يبرز في هذا الإطار "مشروع الحزام والطريق" العملاق كإحدى أكبر أدوات الاختراق الصينية للقارَّة السمراء.

ورغم ظروف انتشار وباء كورونا فقد حافظت بكين على معدلات تبادل اقتصادي وتجاري مرتفعة مع إفريقيا، فبين يناير/كانون الثاني وسبتمبر/أيلول من العام المنصرم بلغت التجارة الثنائية بين الطرفين مستوى قياسيّاً، مرتفعةً بنسبة 32.2% على أساس سنوي لتصل إلى 185.2 مليار دولار أمريكي، كما بلغت الاستثمارات الصينية المباشرة في إفريقيا 2.55 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2021 بزيادة 9.9%. بجانب هذا عقدت الشركات الصينية اتفاقيات تتجاوز قيمتها 53 مليار دولار مع دول إفريقية، وبلغ حجم إيراداتها 26.9 مليار دولار أمريكي كأكبر شريك لإفريقيا خلال 12عاماً متتالية، وفقاً لنائب وزير التجارة الصيني تشيان كيه مينغ.

في مواجهة بكين تسعى الإدارة الأمريكية لتطوير نشاطها الاقتصادي في إفريقيا من خلال عدة محاور، لعل أهمّها "الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية" التي أقرّها اجتماع مجموعة السبع في يونيو/حزيران الماضي، من خلال العمل على جمع 600 مليار دولار تلتزم الولايات المتحدة 200 مليار منها لتنفيذ مشاريع لتطوير البنى التحتية المرتبطة بالتحول الرقمي والطاقة وتحديات المناخ، وهو ما يُعَدّ النظير الأمريكي لمشروع الحزام والطريق الصيني العملاق.

لكن ماذا يقول الأفارقة؟

في هذا الإطار يبدو الحديث عن ضرورة تحقيق "أولوياتنا المشتركة" عبر العمل كـ"شركاء متساوين"، وفق تعبير بلينكن، محاولة لرسم صورة مختلفة للولايات المتحدة تتخلى فيها دول المنظومة الغربية عن دور المرشد إلى دور الشريك الأكثر تواضعاً والأكثر قرباً من المنطق الصيني في التعامل مع دول القارة السمراء.

لكن من وجهة نظر إفريقية فإن هناك رغبة في تحول هذه الصياغات اللفظية حول الشراكة إلى آليات حقيقية ملموسة، إذ كشفت الحرب الأوكرانية النظرة الأمريكية التي لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح القارة وسكانها، إذ فرضت واشنطن وحلفاؤها عقوبات على روسيا وعلى من يتعامل معها دون استشارة الأطراف المتضررة جدياً من هذه الإجراءات، فلإنْ كان التضخُّم على سبيل المثال بلغ في بريطانيا 9% في مايو/أيار الماضي، فإن الأمن الغذائي لعدد كبير من دول القارة تَضرَّر بشكل كبير، حتى أعلن الأمين العامّ لمنظمة الوحدة الإفريقية الرئيس السنغالي ماكي سال من سوتشي الروسية أن "العقوبات المفروضة على روسيا زادت الأوضاع سوءاً".

كما أن حديث بلينكن عن تَطلُّع واشنطن "إلى الدول الإفريقية للدفاع عن قواعد النظام الدولي" تتردد أصداؤه إفريقياً مع مخاوف جدية من تحول القارة إلى ساحة خلفية لحرب باردة جديدة بين القوى العالمية الكبرى، لن تعود بكثير نفع على القارة المتعطشة للاستقرار والتنمية.

في الخلاصة تبدو الإدارة الأمريكية في بنود استراتيجيتها كمن يسابق الزمن لكبح تصاعد النفوذَين الروسي والصيني في القارة السمراء، من خلال طرحها بدائل سياسية وتنموية، لكن مدى نجاعة هذه المقاربة الجديدة يعتمد إلى حد كبير على قدرة واشنطن على تحويلها إلى آليات فاعلة ونتائج ملموسة، وأيضاً على إقناع الأفارقة، الذين لطالما اشتكوا من الإهمال الغربي لهم، بالاصطفاف إلى جانبها في عالم تتغير معالم خرائطه السياسية، وهو ما لا يبدو سهل المنال في وقتنا الحالي.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي