تابعنا
خلُص عديد من التحليلات السياسية إلى أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي كان "فاشلاً" أسفر عن احتدام الحرب الأهلية، وخلق أرضاً خصبة لانتشار التنظيمات الإرهابية بدلاً من محاربتها والحدّ من توسعها.

منذ أن منحتها استقلالها عام 1960 تغير نهج فرنسا تجاه دول غرب أفريقيا من سياسة الاستعمار المباشر الخشن إلى غير المباشر، عبر استغلال مواردها وثرواتها وفرض التبعية الاقتصادية والعسكرية عليها.

غير أن هذا النهج شهد تحولاً مألوفاً حين تبنت فرنسا عام 2013 نهجاً استعمارياً جديداً تجاه مستعمراتها الإفريقية السابقة، على شاكلة التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق المدفوع بمبرر محاربة الجماعات الإرهابية.

وخلُص عديد من التحليلات السياسية إلى أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي كان "فاشلاً" أسفر عن احتدام الحرب الأهلية، وخلق أرضاً خصبة لانتشار التنظيمات الإرهابية بدلاً من محاربتها والحدّ من توسعها.

وصرح رئيس فرنسا السابق فرانسوا هولاند عام 2013، بأن "الأهداف العملية من التدخل الفرنسي تركز على إنهاء الهجمات والتنظيمات الإرهابية في مالي، ومساعدة الحكومة المالية على تحقيق سيادتها على أراضيها".

إلا أن الماليين اتهموا القوات الفرنسية بتقسيم بلادهم وارتكاب جرائم قتل ونهب، منها جريمة قصف عرس "بونتي" الشهير الذي راح ضحيته عدد من المدنيين، ومذبحة "غوسي" التي اكتُشفت بعد انسحاب فرنسا من قاعدة غوسي العسكرية، بعد اكتشاف مقبرة جماعية لجثث دُفنت قرب القاعدة الفرنسية كانت حديثة التحلل.

جذور الأزمة

تعود جذور الأزمة الحالية في مالي إلى ثورة فبراير/شباط الليبية وما بعد الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي عام 2011، إذ عاد المتمردون (مقاتلي الطوارق) الذين قاتلوا في صفه إلى مالي محملين بالأسلحة والعتاد العسكري بطلب من الناتو وعلى رأسه فرنسا، بعد أن وعدتهم بدولة في شمال مالي مقابل التخلي عن القذافي آنذاك، ليشكلوا بعدها تحالفاً مع التنظيمات الإرهابية المتمركزة بالمنطقة، ليستولوا على النصف الشمالي من البلاد ويعلنوا دولة مستقلة أطلقوا عليها أزواد.

ازداد المشهد اضطراباً في مالي عقب زحف مقاتلي حركتي التوحيد والجهاد، في غرب أفريقيا، وحركة أنصار الدين نحو العاصمة باماكو مهدداً الحكومة المالية والمصالح الفرنسية في مالي، ودول الجوار كالنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو وكوت ديفوار.

مآلات التدخل الفرنسي

لم تتمكن الحكومة المالية التي أنهكها انقلاب 2012 من السيطرة على الوضع، وناشدت فرنسا لتزويدها بطائرات مقاتلة ومروحيات هليكوبتر هجومية، لمساعدة الجنود الماليين على إيقاف زحف الإرهابيين نحو العاصمة.

استغلت فرنسا الفرصة وأرسلت قوات عسكرية قوامها 2000 جندي تحت ما أسمته بـ"عملية سيرفال" في ظل إعادة تجسيد حي لسياسة "إفريقيا-فرنسا" ذات البعد الاستعماري.

أسفر التدخل عن تدهور الوضع في مالي بشكل سريع، إذ امتدت أعمال العنف إلى الجنوب ثم إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورتَين، وشن الإرهابيون هجمات وحشية وقع ضحيتها عدد كبير من المدنيين، وانتشر تنظيم داعش الارهابي أيضاً في الصحراء الكبرى وشن سلسلة من الهجمات الواسعة، كما استعادت مجموعات متمردة من سكان الشمال السيطرة على مدينة كيدال وتمبوكتو بعد مواجهات أسفرت عن خسائر في صفوف الجيش المالي.

واستبدلت فرنسا بعملية "سيرفال" بملية "برخان" ذات الأبعاد الإقليمية، معززة ترسانتها العسكرية بثلاثة آلاف جندي فرنسي في منطقة الساحل.

شكل هذا الوضع أرضية خصبة لتوالي الانقلابات العسكرية في مالي، فأطاح انقلاب 2020 بالرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، الذي انتُخب عام 2013 بعد أشهر من تفاقم الأزمة السياسية، تبعه انقلاب جديد عام 2021 تدهورت بعده مباشرة العلاقات الفرنسية-المالية وارتفعت الأصوات المنتقدة والرافضة للوجود الفرنسي في مالي.

أهداف وأطماع

كان الموقع الاستراتيجي المتميز، والثروات الطبيعية التي تزخر بها مالي محط أطماع فرنسا منذ القدم، لذلك سارعت لحماية مصالحها القومية والحيوية الاقتصادية بالمنطقة فور أن سنحت لها الفرصة، إذ تقع مالي على مقربة من حقول النفط الجزائرية وعلى مسافة قريبة من أماكن التنقيب عن المعادن النفيسة ذات المؤشرات الإيجابية في حوض تاودني شمال مالي وشرق موريتانيا.

ووفقاً لخبراء فإن باطن الأرض في المنطقة يحوي كثيراً من الثروات النفطية والغازية والمعدنية الكبيرة، ولعل الوصول إلى اليورانيوم في الصحراء الإفريقية يأتي على رأس المصالح الفرنسية في المنطقة، بسبب اعتمادها الكبير على خام اليورانيوم، إذ تعتمد فرنسا في تلبية نحو 75% من احتياجات الكهرباء على الطاقة النووية، وفي الوقت الذي تعتبر فيه مالي من أكبر منتجي الذهب، تتصدر فرنسا قائمة الدول الأكبر في احتياطات الذهب في العالم برصيد يبلغ 2.43 ألف طن.

إن الصراع بين القوى السياسية الكبرى على الصعيد الدولي يتمثل في توسع النفوذ الأمريكي من جهة، بعد إنشائها "القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا"، أو ما يعرف اختصاراً بـ"أفريكوم" عام 2007، التي تتيح لها مراقبة المنطقة الممتدة من الصومال إلى موريتانيا، والنفوذ الاقتصادي الصيني من جهة ثانية، إذ حصلت الصين على حق التعدين عن اليورانيوم في شمال مالي سنة 2010، إضافة إلى توقيع اتفاقيات تعاون مشتركة بين الصين و باماكو في مجالات متعددة كالزراعة والصناعة والصحة وغيرها.

كما لا يمكن إغفال انتشار مرتزقة شركة فاغنر الروسية في المنطقة في إطار تعاونها العسكري مع الحكومة المؤقتة، إذ تظهر كل هذه المعطيات بشكل أو بآخر تقلص الحظوظ الفرنسية في القارة الإفريقية، وهذا ما يكشف حقيقة تدخلها في أزمة مالي.

وهو ما دفع الشعب المالي ليقود صراعاً لإعادة تشكيل العلاقات المالية مع المجتمع الدولي من التبعية إلى الندية، إذ تنامت الدعوة الشعبية إلى توطيد العلاقة مع القوى الجديدة الصاعدة في الشرق والتي لا تملك تاريخاً استعمارياً في المنطقة، وانتشرت موجة التحرر التي قادتها مالي إلى بوركينا فاسو وقد تمتد إلى باقي الدول الأفريقية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً