على مدار ستة وسبعين عاماً، عاش الشعب الفلسطيني يوم الخامس عشر من مايو/أيار كل عام ذكرى النكبة الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه إلى الشتات، الذي لا يزال يعاني منه إلى اليوم. وكانت هذه الذكرى على مدار أكثر من سبعة عقود يوماً أسود يُحيي فيه الفلسطينيون تلك الذكرى الأليمة بكل ما تحملها من ذكريات المذابح التي ارتكبتها عصابات الهاغاناه والأرغون، التي شكلت نواة ما صار اليوم يسمى "جيش الدفاع الإسرائيلي"، كمجزرة دير ياسين والطنطورة وغيرهما، حتى أصبح هذا اليوم يتشح بالسواد لدى الأغلبية العظمى من الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء والشتات.
لكن تحل ذكرى النكبة هذا العام وسط ظروف مختلفة تماماً لأول مرة منذ بدء الصراع، بسبب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاها من حربٍ طاحنةٍ غير مسبوقة تشنّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بما يجعل الذكرى السادسة والسبعين للنكبة تختلف عما سبقها من سنواتٍ من حيث الشكل والمضمون. فقد مثل السابع من أكتوبر/تشرين الأول يوماً مفصلياً في تاريخ الشعب الفلسطيني والصراع على الأرض الفلسطينية من ناحيتين: إنسانية وسياسية.
فمن ناحية ذكرى النكبة الفلسطينية بشكلها الإنساني الذي يتمثل بالمذابح وعمليات التطهير العرقي التي ارتكبتها إسرائيل غداة إنشائها في فلسطين عام 1948، فإن الحرب الحالية كسرت إسرائيل فيها جميع القواعد والقوانين، وتجاوزت كل الخطوط الحمراء، وارتكبت مذابح ومجازر لم يكن لها مثيل إلا في أيام النكبة الفلسطينية، بل ربما أشد وأعتى مما جرى عام 1948، كما أن ذكرى النكبة كانت ملازمةً لأحداث الحرب الحالية، ولا سيما في بدايتها، إذ لا يمكن نسيان الخطط الإسرائيلية التي أُعلنت في بداية الحرب لمحاولة تهجير سكان قطاع غزة من منازلهم وأراضيهم إلى مصر بعد اجتياحها من جيش الاحتلال الإسرائيلي، بما يشبه تماماً ما حدث في مذابح النكبة الفلسطينية.
ووصل الأمر أيضاً بساسة الاحتلال في بداية الحرب إلى توعّدهم الفلسطينيين بنكبة ثانيةٍ عند بدء الهجوم على غزة قبل سبعة أشهر، فكان استدعاء ذكرى النكبة بالتالي إشارةً إلى مدى ارتباط هذه الأحداث بذلك اليوم بكل ما يحمله من مآسٍ في الذاكرة الفلسطينية، ولا يغفل المراقب عن مشاهد تهجير سكان شمال قطاع غزة إلى جنوبه على شكل جماعات كانت تشبه إلى حدّ كبير مشاهد التهجير خلال النكبة الفلسطينية قبل 76 عاماً.
وبالتالي، فإن الحرب الشعواء التي انطلقت يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول جاءت لتعيد إلى الأذهان أحداث النكبة الفلسطينية بوجهها الإنساني الأليم، إذ باتت تنافس النكبة في بشاعة المشهد نظراً لاختلاف الظروف، ما أدى إلى توثيق الأحداث بشكل لم يكن موجوداً إبان النكبة.
لكن في الوقت نفسه، ومن الناحية السياسية، تأتي ذكرى النكبة هذا العام وقد اختلفت ظروف الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي على حد سواء، إذ نرى اليوم الشعب الفلسطيني يأخذ الأمر بيده بالكامل، ويقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي بطريقة لم يعهدها الاحتلال منذ النكبة، ولم يعتدها. فالسابع من أكتوبر/تشرين الأول نقل المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى أبعاد مختلفةٍ تماماً عن كل ما سبقه خلال السنوات الستّ والسبعين الماضية.
لأول مرة، دخل الفلسطينيون يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الأراضي التي جرى احتلالها عام 1948، والتي كانت في العُرف العالمي وحتى في الذهنية الفلسطينية السياسية ضاعت إلى الأبد، وكان دخول مقاتلي الفصائل الفلسطينية إلى تلك الأراضي مفاجأةً صاعقةً، أعادت صياغة معادلات المنطقة كلها، وهزت فكرة مشروع الحركة الصهيونية بالكامل، وتسببت في شرخ عميق جداً بين أطياف المجتمع الإسرائيلي، ما زلنا نرى آثاره حتى اليوم، ويُتوقع أن تبقى تبعاته، وتتعمق أكثر على المدى المتوسط والبعيد.
بغض النظر عن الجدل الذي لا يزال يدور في بعض الأروقة حول قبول أو رفض ما حدث يوم السابع من أكتوبر، فإن أحداث ذلك اليوم أدت إلى هز فكرة إسرائيل نفسها، وأظهرت أن إسرائيل يمكن أن تُهزم، لأنها هُزمت بالفعل في ذلك اليوم، بل أظهرت ظروف الحرب بعدها فشل الساسة الإسرائيليين في سياسة زرع الرعب في نفوس المدنيين العزل، الذين كانوا نجحوا فيها بفاعلية عام 1948 بعد نشر أخبار المذابح البشعة التي ارتكبت في عدة قرى ومدن وبلداتٍ فلسطينية، إذ فشلت مشاريع تهجير سكان القطاع خارج أراضيهم بعد إصرار عدد هائل من سكان شمال القطاع على البقاء فيه، على الرغم من سياسة الترهيب والتجويع الإسرائيلية، لتُفاجأ إسرائيل هذه المرة بأن انتشار أخبار المذابح التي ارتكبها جيشها في مختلف مناطق قطاع غزة لم تؤدِّ إلا إلى زيادة نبرة التحدي لدى المدنيين أنفسهم قبل الفصائل الفلسطينية. وهذا الأمر يبين أن إسرائيل باتت اليوم تواجه شعباً فلسطينياً يختلف في قناعاته وأفكاره عن ذلك الشعب البسيط الذي واجهته إبان النكبة الفلسطينية.
إسرائيل خسرت معركة السابع من أكتوبر منذ لحظتها الأولى، وفشلت على الرغم من حربها المدمّرة على قطاع غزة في انتزاع أي تراجعٍ من الفلسطينيين، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الزمن تجاوز النكبة الفلسطينية، ولم تعد تشكل عبئاً أو حاجزاً نفسياً أمام الجيل الفلسطيني الحالي. ودراسةٌ سريعةٌ لهذا الجيل تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أننا لا نرى الآن جيلاً فلسطينياً يمكن أن يكرّر أحداث النكبة، بل إنه جيل تعلّم دروسها ووعاها جيداً، ويعمل بمقتضى ذلك.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.