تابعنا
ثمة أسباب عدّة دفعت الاحتلال إلى الموافقة على الاتّفاق، لكن ليس لدواعٍ إنسانية، وإنْ ادَّعى الأخير ذلك، فوقف آلة الحرب لأسباب "إنسانية" كان يقتضي أن يحصل الأمر منذ أسابيع، وليس بعد أكثر من شهر ونصف من عدوان متواصل أودى بحياة الآلاف.

بعد الإعلان عن هدنة في قطاع غزة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية يتخللها تبادل أسرى ومحتجزين من النساء والأطفال، تُطرح تساؤلات حول دلالاتها. ولأنها تأخرت كثيراً، بسبب مماطلة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وتعنّته، هل تتجاوز الهدن المؤقتة التقليدية، أم تندلع المعارك من جديد؟

دوافع الهدنة

منذ بداية العدوان على قطاع غزة، أعلنت حركة حماس نيتها إطلاق سراح أسرى من المدنيين وحَمَلة الجنسيات الأجنبية وعدَّتهم "ضيوفاً" لديها، إلى أن يحصل وقف إطلاق نار يسمح بالإفراج عنهم.

ولأن نتنياهو وحكومته رفضوا بشكل قاطع فكرة وقف إطلاق النار خوفاً من استفادة حماس والمقاومة منها، ينبغي البحث عن الأسباب والدوافع التي أنتجت الاتفاق الأخير، وهي في مجملها تحيل إلى إذعان الاحتلال وتراجعه عن مواقفه تحت ضغط أداء المقاومة وصمود الشعب في غزة.

ثمة أسباب عدّة دفعت الاحتلال إلى الموافقة على الاتّفاق، لكن ليس لدواعٍ إنسانية، وإنْ ادَّعى الأخير ذلك، فوقف آلة الحرب لأسباب "إنسانية" كان يقتضي أن يحصل الأمر منذ أسابيع، وليس بعد أكثر من شهر ونصف من عدوان متواصل أودى بحياة الآلاف.

برأينا، إن السّبب الأول والأهم هو فشل الاحتلال في تحرير أسراه في غزة بالأدوات العسكرية والأمنية كما هدّد وخطَّط في البداية، إذْ لم يستطع تحرير ولو شخص واحد من يد المقاومة، باستثناء إعلانه عن تحرير مجنّدة اتضح لاحقاً أنها لم تكن أصلاً ضمن الأسرى، ما عرّضه للانتقاد والسخرية.

أمّا الثاني فهو الفشل العسكري والأمني المركّب للاحتلال، إذ عجز بعد أكثر من شهر ونصف من العدوان -الذي تخللته جرائم الحرب- عن تقديم أي صورة للنصر، ولو هامشية أو حتى مدّعاة.

ولم يُنجز جيش الاحتلال الأهداف المعلنة، ولا دمّر البنية العسكرية لكتائب القسام، ولا كشَف عن شبكة أنفاقها أو مقرّاتها القياديّة، ولا اغتال الشخصيات التي توعّدها، ولا أسَر ولو مقاوماً واحداً في ميدان المعركة، فضلاً عن عجزه عن تحرير أسراه.

ويعود الفضل في هذا الفشل المدوّي إلى الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وكذلك الأداء البطولي للمقاومة، وما أكّدته للعالم من مصداقية في توثيق عملها المقاوم.

ويتصل ذلك أيضاً بمستوى خسائر الاحتلال البشرية حتى لحظة إعلان التهدئة في أوساط الجنود والضباط من جهة، والأسلحة والعتاد من جهة ثانية، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية وتبدّد الصورة والسردية الإسرائيليتين.

وكذلك يظهر تعب المؤسسة العسكرية وإرهاقها في الحرب على مدى أكثر من ستة أسابيع، لا سيّما مع ما تعرضت له قوات النخبة في غزة من خسائر.

ومن أهم الأسباب في هذه الهدنة، ضغط الجبهة الداخلية على حكومة نتنياهو التي يُحمّلونها مسؤولية الفشل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وتراجع تأييد العملية العسكرية، وازدياد احتجاج أهالي الأسرى لدى المقاومة.

وقد زاد من أثَر ذلك إعلان حماس عن مقتل عددٍ من الأسرى نتيجة للقصف "الإسرائيلي"، ما جعل الوقت يعمل ضد نتنياهو وحكومته.

وفي مقدمة الأسباب هناك حرج الإدارة الأمريكية التي باتت تواجه معارضة داخلية واضحة؛ بسبب دعمها المالي والسياسي اللّا محدود للعدوان الإسرائيلي رغم ما تخلّله من مجازر، وهو ما تسبب في تراجع شعبية بايدن، ويُشكل مصدر قلق بالنسبة إليه وللحزب الديمقراطي مع اقتراب الانتخابات الرئاسية.

هناك كذلك الرأي العام العالمي الذي يتعمّق فيه الرأي المندّد بجرائم الاحتلال وتتعزز لديه صحّة سردية الحق الفلسطيني، ما يسهم في آخر المطاف في زيادة الضغوط على "إسرائيل" وداعميها.

دلالات الاتفاق

في بيان مقتضب، أعلن الوسيط القطري التوصل إلى اتفاق هدنة إنسانيّة تستمر لأربعة أيام قابلة للتمديد، وتشمل تبادلاً للأسرى من النساء والأطفال ودخول قوافل المساعدات إلى القطاع.

وكانت حماس أكثر حرصاً على ذكر تفاصيل الاتفاق، إذ وضّح بيانها أن الهدنة تشمل وقف كل الأعمال العسكرية، بما في ذلك وقف حركة الطيران جنوب القطاع طوال الهدنة، ولست ساعات يومياً شماله.

إلى جانب إدخال مئات شاحنات المساعدات، تضمَّن الاتفاق إطلاق 50 من محتجزي الاحتلال من النساء والأطفال مقابل 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وضمان حرية انتقال الناس من شمال القطاع إلى جنوبه وامتناع الاحتلال عن اعتقال أو استهداف أحد.

ومن الخطوط العامة لهذه الهدنة، يتّضح أن الاحتلال رضخ لمبدأ الهدنة الإنسانية المؤقتة التي رفضها طويلاً، بما يعني الاعتراف بالفشل العسكري والأمني.

وانتقل الحديث من إفناء المقاومة إلى التفاوض معها، والموافقة على الكثير من شروطها، بدءاً من مبدأ الهدنة ومدتها الزمنية مروراً بتبادل الأسرى والمحتجزين، وليس انتهاءً بوقف العمليات العسكرية وحركة الطيران ودخول المساعدات لكل قطاع غزة.

ولا يعني ذلك أن المقاومة الفلسطينية قد فرضت شروطها بالكامل أو حصلت على جميع ما أرادت، فذلك ممّا لا تسمح به موازين القوى.

ويبدو أن حماس وضعت نصب أعينها الأوضاع الإنسانية الصعبة للغزيّين، فقدمت تنازلات لا سيّما فيما يتعلق بالتمييز بين شمال القطاع وجنوبه بخصوص حرية التنقل واستمرار تحليق الطائرات، فضلاً عن حصر شروط الهدنة في قطاع غزة من دون الضفة مثلاً.

سيناريوهات مرتقَبة

ويتضمن الاتفاق بنوداً يمكن الاختلاف حول تفسيرها بين المقاومة والاحتلال، وبالتالي هناك عدّة ثغرات قد تشكل تحديات كبيرة في مسار التطبيق، إلا أن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه هو: هل تكون الهدنة بوابة لهدن متتالية تُفضي إلى انتهاء الحرب؟ أم أنها هدنة مؤقتة يعود العدوان بعدها أشرس مما كان عليه؟

منطقياً، يبدو الخيار الأول أكثر ترجيحاً؛ لما سبق ذكره من عوامل مؤثرة في مسار الحرب، في مقدمتها الموقف العسكري والأمني والضغط الأمريكي والرأي العام الدولي، وطبيعة تدرّج الهدن عادة في الحروب، وسلامة بنية المقاومة، وفشل أهداف الاحتلال، التي استعاض عنها بقتل المدنيين.

كما أنَّ ما ستكشفه الهدنة من دمار وجرائم في غزة وأعداد القتلى الفلسطينيين، ومن الأسرى والمحتجزين "الإسرائيليين" على يد جيش الاحتلال بذاته، سيدفع نحو تأجيج الضغوط الخارجية والاعتراضات الداخلية.

لكنَّ الأمور لا تُحسم بالمنطق دوماً، إذ ثمة عوامل ستدفع باتجاه تصعيد الحرب بعد انتهاء الهدنة، في مقدّمتها تعطّش جيش الاحتلال للدماء وافتقاره حتى اللحظة لصورة انتصار -ولو كان موهوماً- ليسوّقها داخلياً.

وثمة رغبة لدى نتنياهو في إطالة أمد الحرب ما أمكن لتجنّب مرحلة التقييم التي ستُنهي حياته السياسية على الأغلب، وثقة الاحتلال في استمرار الدعم الأمريكي المطلق الذي يجنّبه أي حساب على الساحة الدولية.

كما أن هذا النوع من الهدن تتخلله عادةً تفسيرات متباينة من الطرفين لبعض المواد الفضفاضة في الاتفاق، ما يفتح الباب أمام الخروقات التي قد تؤدي لانهيار الهدنة قبل أن ينقضي وقتها.

في المقابل، إن الحديث عن إمكانية تمديد الهدنة في حال أفرجت المقاومة الفلسطينية عن أعداد محدودة إضافية من المحتجزين يومياً، يفتح الباب على إمكانية التمديد أكثر من مرة واحتمال التوصل لاتفاق نهائي لاحقاً.

وعليه، فما نتوقعه هو أن لا يكون الاتفاق الحالي إعلان نهاية الحرب، إذ ستعود الآلة العسكرية "الإسرائيلية" للقصف والقتل في غزة، وسوف تقدم للجبهة الداخلية الإسرائيلية رسالة قوة واستمرارية مزعومة.

لكن الاحتلال في المقابل يعدُّ أرضية تمكِّن من البناء عليها مستقبلاً وتطويرها وتحويلها لاتفاق مستدام، خصوصاً إذا ما استمر صمود الشعب الفلسطيني وأداء مقاومته الباسلة.

ويبقى الموقف الأمريكي في نهاية المطاف في مقدمة العوامل المحددة للقرار "الإسرائيلي" الميداني، إذ من غير المتوقع أن يستمر دعم واشنطن للعدوان بشكله الحالي إلى ما لا نهاية، لا سيما مع الخسائر السياسية والانتخابية التي يتعرض لها بايدن بسبب ذلك في حزبه وعموم الولايات المتحدة كذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً