امرأة أوكرانية يظهر خلفها حجم الدمار الذي ألحقه القصف الروسي (Emilio Morenatti/AP)
تابعنا

واللافت فعلاً في هذا الخطاب دعوة بوتين للجنود الأوكرانيين بالتمرد على قيادتهم وإلقاء اسلحتهم والعودة إلى ديارهم، مهدداً في الوقت نفسه حلف الناتو بالقول إن موسكو سترد على الفور في حالة حدوث أي تدخل أجنبي.

ولكن الواقع الحقيقي ومجريات الأمور تقول إن بوتين، ومن خلفه الكرملين، يريد أن تبقى أوكرانيا دولة تابعة له و تدور في فلكه، وأن تبتعد حتى عن التفكير بالانضمام لحلف الناتو الذي تعتبره موسكو خطراً يهدد أمنها القومي إذا تمدد بصواريخه إلى قرب حدوده ومصالحه الحيوية.

بدأت الحرب رغم تأكيدات موسكو السابقة بعدم وجود أية نية لها في شن عمليات عدوانية ضد كييف، وبالتأكيد إن هذا النفي على أرض الواقع لا يتوافق مع المعلومات الاستخباراتية ومجريات الميدان والمناورات المشتركة الواسعة التي أجرتها وأنهتها موسكو قبل أيام عدة على الأراضي البيلاروسية القريبة من الحدود الأوكرانية باشتراك قوات بيلاروسيا فيها.

ولم يتوافق أيضاً مع المناورات التي أجراها الكرملين قبل أيام مستعرضاً من خلالها الصواريخ الاستراتيجية فرط الصوتية من نوع كينيجال (المتجل) وتسيركون القادرة على حمل رؤوس نووية والتي أصابت وبدقة عالية أهدافاً لها على بعد 2000 كيلومتر.

بدأت الحرب بعد أن ضرب بوتين بعرض الحائط كل التهديدات والتحذيرات الأممية، وعزم الولايات المتحدة والغرب على اتخاذ وفرض إجراءات سياسية واقتصادية ومالية عقابية لم يسبق لها مثيل، سيقومون بها مجتمعين إن تم أي اجتياح روسي من شأنه تهديد أمن وسلامة الأراضي الأوكرانية، وهو الأمر الذي اتخذ بعد الغزو.

في الواقع، وبعد أن بدأت موسكو غزوها، ولمعرفة ما الذي ستصل إليه التطورات على ساحة العمليات فلابد لنا بداية أن ننطلق من المقارنة بين القدرات العسكرية الروسية والقدرات الأوكرانية، فالواقع يقول إنه توجد فوارق واسعة كبيرة بين الطرفين في التسليح وتفوق كبير في نسبة القوى والوسائط مؤكد لصالح القوات الروسية الجوفضائية والبرية والبحرية والتي لا يمكن أساساً أن تقارن مع قدرات الجيش الأوكراني، ناهيك بالقدرات التقنية والتكنولوجية والهجمات السيبرانية التي يستطيع الجيش الإلكتروني الروسي القيام بها لشل منظومات عمل الوزارات والبنوك والاتصالات ومحطات الكهرباء والغاز وغيرها، والتي من شأنها إحداث الفوضى الشاملة في البلاد بأكملها.

بالتأكيد فإن المخطط الإستراتيجي الروسي قد أعد كامل الخطط والخرائط الميدانية العملياتية منذ وقت على أساس اجتياح جزئي أو اجتياح كامل لأوكرانيا، ويشير سير العمليات إلى أن الاجتياح سيكون واسع النطاق ويشمل كل أوكرانيا، فمن الواضح أن الأولويات الواجب القيام بها مع بنك الأهداف وضعت على أساس ذلك.

وفي كلا الحالتين، ومن خلال متابعة مجريات الأعمال القتالية الروسية منذ لحظة إعلانها وحتى الآن، فقد تركزت على توجيه الضربات المدفعية والصاروخية (كاليبر وكروز) الدقيقة لتطال الأهداف الحيوية وأهداف الأفضليات الأولى للجيش الأوكراني، مثل: مقرات القيادة والسيطرة والتحكم للقوات البرية والبحرية والجوية، المطارات، وسائط الدفاع الجوي والاتصالات، والمدفعية الصاروخية والقواعد البحرية وخلافه. وذلك بهدف التأثير عليها وعلى فعاليتها أو تحييد ما أمكن منها وإخراجها من المعركة وفتح الطريق للطيران المقاتل والقاذف من طراز (سو27 و35) وحوامات الدعم الناري كاموف 52 بتسيد الأجواء والعمل بأريحية تامة في تقديم الدعم للهجمات البرية على مختلف الجبهات.

السيناريو المحتمل للعمليات الروسية

لاتزال العمليات التي يقوم بها الجيش الروسي في بداياتها والواقع الميداني يقول إن هذه العمليات ستكون متدحرجة ومتنوعة وذلك بعد تغذية جهد النسق الهجومي والتفعيل الذي سنراه خلال الأيام القادمة على عديد من الجبهات والمحاور، وستكون طبيعة العمليات مزيجاً استراتيجياً يجمع بين الضربات الجوية والصاروخية التي تهدف لتأمين الاجتياح البري والانزالات الجوية والبحرية والهجمات الجبهية، والجمع بين مناورات الالتفاف والإحاطة والخرق وتوسيعها لتقطيع أوصال الأقاليم الأوكرانية، وخاصة من الجبهة الشرقية (دونباس) والجنوبية من شبه جزيرة القرم وصولاً إلى الحدود البيلاروسية لإنشاء جسر يصل القرم ومناطق أخرى بإقليم دونباس كل هذا هدفه زيادة الضغط النفسي والتكتيكي على الجيش الأوكراني وتشتيته وإضعاف صموده على العديد من الجبهات وصولاً إلى استسلامه إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

من جهة ثانية فإن الضربات الصاروخية الروسية غالباً في هذا الوقت تستهدف أهدافاً عسكرية في محيط المدن الكبرى مثل كييف وخاركييف وماريويل وغيرها بهدف إفراغ المدن الرئيسية من المدنيين واجبارهم على النزوح، ليسهل على الجيش الروسي توسيع العمليات البرية المدمرة وبالتالي فإن موسكو تريد من خلال ذلك عدم تزايد النقمة الدولية عليها في حال سقوط أعداد كبيرة من المدنيين.

كما أن بوتين بعد هذه الضربات الصاروخية لأهداف عسكرية انتقائية ونقطية كان يريد جس نبض واختبار ردود الأفعال الدولية وعلى أساسها سيتخذ قراره إما أنه سيقوم بعملية محدودة تشمل السيطرة فقط على كامل إقليم دونباس وإما سيوسع من عملياته لتشمل مدناً أوكرانية أخرى. ويبدو حتى الآن أن بوتين مصمم على اجتياح أوكرانيا برمتها.

ختاماً.. بالتأكيد لن يكون غزو الكرملين رغم التفوق الاستراتيجي مجرد نزهة يقوم بها الجيش الروسي في أوكرانيا، بل سيتكبد الخسائر الكبيرة وسيستنزف في العدة والعتاد كلما تقدم أكثر في العمق الأوكراني وواجه حرب العصابات وحرب المدن، ولذلك نجد أن بوتين يسعى حثيثاً لتقريب الهدف المنشود بالوصول إلى العاصمة كييف لإسقاط حكومتها وتنصيب حكومة أخرى موالية له. ولكن هذا الأمر أيضاً من الصعب حدوثه لأن إسقاط الحكومة في كييف يعتبر إزاحة للحكومة المعترف بها دولياً، مما سيؤدي إلى نقلها بإشراف الناتو إلى منطقة أخرى لممارسة مهامها، وتبقى على رأس عملها وتدير المقاومة ضد الغزو الروسي الصارخ لبلادها.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي