رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد (Others)
تابعنا

فهو عربي الاسم، أورثوذوكسي الأم، مسلم الأب، أمهري الأخوال، أورومي الآباء، بروتستانتي الديانة، ناطق بعدة لغات. هذه الخلطة المتشاجرة هي الهوية الجامعة، أو المفرقة، لإثيوبيا ذات المئة وعشرة ملايين نسمة.

هبطتُ مطار أديس أبابا الواحدة صباحاً، وما إنْ وقفتُ في طابور الجوازات حتى لاحظت أن معظم النساء الإثيوبيات الواقفات في الطابور مسلمات محجبات. لكن الموسيقى الدينية المسيحية كانت تملأ المكان كذلك، فبشقّ الأنفس سمعتُ كلامَ ضابط الهجرة. تجاوزته فلاحتْ لي فرقةٌ دينية تعزف بمناسبة أعياد الميلاد الأورثوذوكسية. كان ذلك كله داخل المطار قرب مكان تسلُّم الحقائب. تلخص تلك الصورة طبيعة هذه البلاد الكثيفة، كما تلخص حكاية رئيس وزرائها آبي أحمد.

تتميز إثيوبيا بكونها فيدرالية مكونة من أحد عشر إقليماً مستقلاً استقلالاً يضارع الكمال. وتفتخر بكونها الدولة الإفريقية الوحيدة التي لم تخضع للاستعمار الأوروبي. فما إنْ دخلها الإيطاليون بداية القرن العشرين حتى خرجوا مدحورين، مما جعل قادتها يسعون لتكوين إمبراطوريتهم الخاصة ذات الألوان المختلفة والأجناس المتغايرة. ومن ذلك التوسع الإمبراطوري، بداية القرن العشرين، تشكلت الحبشةُ الحديثة.

تكاد تكون خطوطُ الخريطة الإثيوبية محفورةً بفؤوس اللغة والدين والعرق. ففي شمالها يرقد إقليمُ التيغراي، (يمثلون نحو سبعة في المئة من السكان) حيث التاريخ العريق للكنيسة من أيام أبرهة الحبشي، والنجاشي، ومملكة أكسوم.

كما يحتفظ التاريخ لقومية التيغراي بتمسيح المسلمين بحد السيف، خاصة أيام الملك يوهانس (1831-1889). ذلك الملك الذي قاده التعصب الطامح إلى السودان فتلقاه الدراويش وحزوا رأسَه حزاً.

وفي وسط الخريطة شمالاً يتوارى الأمهرةُ بين جبالهم الخصبة الخلابة. حيث الزراعة، والإسلام، والكنيسة الأورثوذوكسية، وتاريخ الصراع الطويل بين الكنيسة والسلطنات الإسلامية بمنطقة وَلُّو. ففي وسط أمهرة تقع مدينة غوندر، حيث مُسِّح المسلمون بحد السيف، وخيضت أعنف المعارك لجعل إثيوبيا قلعةً أبدية من قلاع المسيحية. كما ينظر إلى إقليم الأمهرة باعتباره مَنجمَ التاريخ الثقافي والسياسي للبلاد لدرجة اختيار لسانه لغةً رسمية للبلاد من بين أكثر من ثمانين لغة مُتحدَّثة في الحبشة.

يُسامت إقليمُ أمهرة جنوباً إقليمُ أوروميا، حيث وُلد آبي أحمد عام 1976، بقرية بشاشا المشهورة بزراعة القهوة. ولد لأبٍ من عرقية الأورمو التي تكاد تكون أكثر من ثلث السكان. وعندما بلغ عامه السابع ودّعتْه أمه ذاهباً إلى أول أيامه في المدرسة هامسةً في أذنه: "أنت استثنائي، وستخدم بلدَك وتدخل القصر يوماً"، حسبما ذكر آبي أحمد في مناسبات مختلفة.

لم ينس آبي أحمد نبوءةَ أمه يوماً. لكن كان عليه الانتظار حتى ينتفض شبانُ الأورومو عام 2017. ففي ذلك العام بدأ الأورومو مظاهرات صاخبة ضد تهميشهم باعتبارهم أكبر عرقية في البلاد. وأدت المظاهرات إلى استقالة الحكومة برئاسة رئيس الوزراء هيلا مريم ديسلاسي، وسقوط نظام التيغراي الذي حكم البلاد بين 1991 و2018. كانت تلك هي اللحظة التي مهدت الوطاءَ السياسيَ لآبي أحمد. إذ قُدم باعتباره الشخصية الأورومية الوحيدة القادرة على كسر جماح المظاهرات وإعادة البلاد إلى الهدوء.

تتميز عرقية الأورمو، التي ينحدر منها الرجل، بكون غالبيتها الكاسحة مسلمين. وقد عانت من التهميش والاضطهاد على أيدي الأنظمة المتعاقبة، ثم ترسّخَ ذلك منذ استيلاء مسلحي التيغراي على الحكم في أديس أبابا، وسقوط نظام منغيستو هيلي مريم عام 1991.

كانت الخطوات الأولى التي اتخذ الزعيم الأورومي آبي أحمد ثوريةً ومثيرة. إذ أطلق سراح آلاف المعتقلين السياسيين، ودعا المعارضين المغتربين للعودة، ودعمَ سيدةً لتكون رئيسة، وتحدث بلغة جديدة مفعمة بالتفاؤل والتفاهم والتصالح. وسمح للأقاليم الطامحة إلى الاستقلال الذاتي بتنظيم استفتاءات مما قاد لظهور إقليمين جديدين في الجنوب رفعا أعدادَ الأقاليم من 9 إلى 11.

خدّرت تلك الخطوات البلادَ سعادةً، ثم طار الرجل إلى إريتريا لعقد صلح تاريخي مع المستبد الإريتري أسياس أفورقي، منهياً بذلك عقوداً من الصراع العبثي. وهكذا برز أبي زعيماً، شاباً، مفوهاً، متحدثاً عن الهوية الإثيوبية الجامعة، لا عن العرقية المنكفئة، وعن الفيدرالية الرحبة، لا عن الإقليمية الضيقة، وعن التوافق والتقارب، لا التناحر والتنافر.

افتتن الإثيوبيون بالشاب الأربعيني الوسيم الأصغر بين زعماء القارة الإفريقية. فصارت الكتب التي تمجده من أكثر الكتب مبيعاً، ككتاب "موسى"، وهو كتاب يقارن بينه وبين النبي موسى يوم جاء لإخراج بني إسرائيل من التيه. غير أن هذا العرس الحبشي الراقصَ لم يعمّر طويلاً.

ليس آبي أحمد قادماً من خارج البنية البيروقراطية للدولة الحبشية. بل ترقى في الجيش حتى غدا عقيداً، وتقلد مناصب مختلفة قادته إلى وزارة العلوم والاتصالات عام 2015، وعمل مع إدارة التيغراي السابقة ثماني سنوات. فهو ابن للمؤسسة عارف وبدهاليزها خبير. غير أن كل ذلك لم يعصمه من المشاكل التي بدأت تطفو أشهراً بعد تسلمه مقاليد الحكم. ففي عام 2019 قُتل الآلاف بسبب التوتر العرقي والصراع على الأرض، ونزح مليونا مواطن من بلدانهم خوفاً، وظهرت الاغتيالات السياسية التي لم تكن معروفة من قبل.

وفي العام عينِه قرر الرجلُ تصفيةَ الحزب الحاكم الذي انتمى له يوماً، معتقداً أنه وسيلة من وسائل سيطرة التيغراي وتمسكهم بالسلطة، والاستمرار في إدارة دواليب الحكم. فأسس "حزب الازدهار" الذي قاطعه التيغراي، وبدؤوا يتسللون لواذاً إلى إقليمهم، استعداداً للحظة حسمٍ مع الرجل. فاتخذ أبي تدابير منها تغيير حراسه الذين جعلهم من الأورومو، ودربهم في الإمارات العربية المتحدة.

نجح التيغراي بسبب خبرتهم السياسية الطويلة، وعلاقاتهم الدولية وحضورهم داخل دوائر الدولة في خلق أزمات للرجل. وانتظروا حتى قرر تأجيل الانتخابات في سبتمبر/أيلول 2021 بحجة كورونا، فنظموا انتخاباتهم الخاصة في إقليميهم، ثم هاجم جيشُهم قاعدةً للجيش الفيدرالي.

كانت تلك الحادثة بدايةَ الحرب التي دخلتها البلاد ما بين سبتمبر/أيلول 2021 ويناير/كانون الثاني 2022.

وما إن اشتعلت البلاد حرباً حتى بهتتْ صورةُ آبي أحمد دولياً. فاتهمه الغرب بالتخطيط للصراع حتى قبل حصوله على جائزة نوبل في أكتوبر/تشرين الأول 2019، واعتبروا مصالحته مع إريتريا، التي نال بها الجائزة، إنما كانت جزءاً من استعداده لقتال أبناء وطنه التيغراي. وآيةُ ذلك أنه وأسياس أفورقي اجتمعا قبل الحرب 14 مرة، دون مساعديهما، ودون أدوات تسجيل، أو أقلام لكتابة الملاحظات.

وانطلقت حملةٌ إعلامية غربية لتشويه صورة الرجل الذي كانت ألسنةُ الإعلام الغربي رطبةً من تمجيده وتلميعه. فتراجعت أوصافُه الإيجابية في الصحف، وبرزت آراءُ التيغراي في الفضاء الغربي، ثم انتقلت إلى العالم العربي متدثرةً بقصة سد النهضة الذي استُكمِل مشروعُه قبل وصوله للسلطة. (حدثني صحفي إثيوبي أنه سمع من فم الرئيس ملسي زناوي أنه ما بنى السدَّ لحاجة اقتصادية ملحة، بل لإشغال الإثيوبيين المسلمين عن التأثر برياح ربيع العرب).

ربما يتذكر القارئ حديثَ الإعلام الغربي أثناء الحرب عن السقوط الوشيك لأديس أبابا، بينما كانت الحقيقة مناطَ الثريا من ذلك. ولعل تلك الحملات السياسيةَ والإعلامية الغربيةَ دفعت الرجلَ إلى تحويل وجهه شرقاً للاستعانة بمُسَيَّرات تركيا والصين مما مهد الطريق لحسم المعركة جوياً، بعدما أوقف سكان إقليم عفر تقدم قوات التيغراي برياً.

وضعت الحرب أوزارها نهاية ديسمبر/كانون الأول 2021، بمسيرات الأتراك والصينيين، وبالمقاومة الشرسة لمقاتلي عفر. لكن أبي شرع في الاستعداد لحرب من طراز آخر. فقد أطلق سراح السجناء السياسيين من جبهة التيغراي، ومن زعماء القوى السياسية كافة، داعياً إلى حوار وطني يحضره ممثلون عن الأقاليم كافة تمهيداً لرسم وجهٍ لإثيوبيا ما بعد الحرب. لكن هذا الحوار سيواجه حتماً معضلات جمة.

رخاوة الحمض النووي للدولة

من اللافت أن القضايا التي ستُبحث ستشمل نقاطاً داخلة في الحمض النووي لفكرة إثيوبيا ذاتها. إذ قد يكون مما سيناقش العلَمُ الوطني، ومواد من الدستور، واللغة الرسمية للبلاد.

فالعلم الوطني، بصيغته الحالية، عَلم كنسي مكون من ثلاثة ألوان ونجمة. الألوان ترمز للتثليث حسبما ورد في قرار وضعه، والنجمة مجاملةٌ لبقية الأعراق. ويطالب الأورثوذوكس المتطرفون بنزع النجمة، وتمحيض العلم للكنيسة، كما يطالب الأورومو بتغيير العلم كلياً باعتباره رمزاً للاضطهاد والقمع الذي مورس عليهم طيلة الحقب المتعاقبة.

أما الدستور فلعل أهم مادة ستناقش منه هي المادة 39. إذ تنص على أن "كل إقليم أو شعب من شعوب إثيوبيا يحق له تقرير المصير بما فيه الانفصال التام عن الدولة الفيدرالية إن أراد ذلك". فتوجد أصوات ترى النص مساعداً على تشظي البلاد، وتأبيدِ القابلية للانفصال فيها.

أما اللغة فإن وضعها الحالي يجعل اللغة الأمهرية لغة الإدارة الفيدرالية بينما يحق لكل إقليم التحدث والدراسة بلغته الخاصة. وثمة مطالب بتفعيل القرار كون لغة الأورومو لغة فيدرالية أخرى مع الأمهرية. وهو قرار كان اتخذ لكنه لم ينفذ بعدُ.

ثمة تحديات جمة تواجه آبي أحمد، لتنوع وجوه بلاده، وعمق ثقافتها، واختلاف لغاتها وأديانها، ورزوحها تحت وطأة التاريخ. غير أنه ربما يكون الشخصية الأقدر على حفظ هذا التوازن، وقيادة البلاد إلى حالة من التصالح مع ألوانها المنوعة، وأعراقها المتشاكسة، وأديانها المختلفة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً