تابعنا
بعد أربعة أسابيع من الإضراب، انتهت أزمة معلمي الأردن، بموافقة الحكومة "مُرغَمةً" على تحقيق مطالبهم، مما أشعر الشارع الأردني بالبهجة والفرح الغامر.

في تلك الأثناء غرّد الملك عبد الله على تويتر مشتبكاً مع المآلات التي انتهت إليها الأزمة، إذ كتب "سعادتي برؤية الطلبة في مدارسهم كبيرة، وأهنّئ المعلمين بيومهم العالمي، تابعت تفاصيل الإضراب وبعضها كان مؤلماً بعبثيته وأجنداته البعيدة عن مصلحة الطالب والمعلم والتعليم فكان لا بد من إنهاء الاستعصاء خدمةً للعملية التعليمية، الثمن الأكبر كان تعريض مصلحة الطلبة للإعاقة وهذا يجب ألا يتكرر".

هذه التغريدة أثارت التساؤلات والنقاشات عن مبرراتها وأهدافها، وأكاد أجزم أنها ألهبت الأجواء، ودشّنَت لتحليلات متنوعة عن اتجاهات الدولة في تعاملها القادم مع الفعل المطلبي الاقتصادي والسياسي على السواء.

الحكومة والشعور بالهزيمة

طوال أربعة أسابيع تدير الحكومة الظهر لمطالب المعلمين، إذ ظهر رئيس الوزراء عمر الرزاز، على شاشات التليفزيون الرسمي رافضاً مطالبهم ومتوعداً لهم.

لكن الإضراب استمر متماسكاً، وبدا غير متأثر بتهديدات الحكومة، ولعلها المرة الأولى في تارخ الدولة الأردنية التي ترى فيها إضراباً له حاضنة اجتماعية كبيرة وواسعة بهذا الشكل.

في النهايات، أظهرت أدوات الحكومة أنها معطوبة، وسقطت محاولات الشيطنة للإضراب، كما أن تحويل القضية إلى المحاكم أفاد المعلمين أكثر من أي وقت مضى.

هنا، تنازلت الحكومة، وقبلت باشتراطات نقابة المعلمين، وأكاد أجزم أن الحكومة الأردنية، مع كل داعميها في الدولة، شعروا بالهزيمة، وبلعوا النتيجة بمرارة لا تخفى على أحد.

حفاوة شعبية غير مسبوقة

لا يَخفَى على أحد أن الغالبية العظمى من الشعب الأردني وقفت إلى جانب المعلمين في صراعهم مع الحكومة، وقد أظهر الناس حفاوة كبيرة بتوقُّف الإضراب الذي جاء بعد الاستجابة لمطالب المعلمين.

بل يُقال في أروقة التحليل، وداخل أبنية السلطة الأردنية، إن أحد أهمّ أسباب نجاح الإضراب وصلابته، هو امتناع الأهالي عن إرسال أبنائهم إلى المدارس، رغم النداءات الحكومية والاستجداءات المكشوفة.

من هنا أكرر ما قلته سابقاً، من أن الإضراب الأخير للمعلمين كان بحاضنة اجتماعية واسعة، كما أنه يُعبّر بصراحة عن استفتاء شعبي عنوانه رفض سياسات الحكومة الاقتصادية، وإعلان التذمُّر من الأوضاع المعيشية.

الملك يكسر الصمت ويخلط الأوراق

تغريدة الملك، التي كتبتُ نصها في مقدّمة المقالة، خلطت الأوراق، وأظهرت غضب المرجعيات من الإضراب ونتائجه، كما أنها حملت في طياتها إشارات تتعلق بسياسات الدولة القادمة تجاه بعض الملفات.

تقديري أن الملك لم تعد تعجبه طريقة إدارة رئيس الحكومة للبلاد، بل عند المرجعيات قناعة بانتهاء صلاحية حكومة الرزاز، لكن التوقيتات تجبرهم على الانتظار أشهُراً أخرى حتى ينتهي العمر الدستوري للبرلمان.

ولعل الملك، الذي قال في تغريدته إنه راقب مشهد الإضراب من كثب، عاين بنفسه عجز أدوات الدولة عن الاشتباك الفاعل مع تلك الأزمة، ولعل هذا الأمر يستلزم مراجعات من نوع خاص.

الإسلاميون في المشهد

يرى كثيرون أن تغريدة الملك ستشكّل إشارة شديدة اللهجة، موجَّهة إلى تفصيلات الدولة الأردنية، بمراجعة نهج النعومة المتبع مع جماعة الإخوان المسلمين.

في الدولة وعند الملك، قناعة بأن إضراب المعلمين الأخير، لم يكن ليستمر أو ليعيش حالته الصلبة لولا دعم الإسلاميين له، وتلك مقاربة تحتاج إلى نقاش، وتعتورها حالة إنكار لحجم البعد المطلبي ووزنه العميق.

من هنا جاءت تغريدة الملك شديدة اللهجة ومفاجئة، اشتبكت مباشرة مع النتائج، وقررت أن تكرار تلك المآلات مرفوض، وأن أجندةً لا بدَّ من التعامل معها في قادم الأيام.

لذلك ستكون علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالدولة، على محكّ تلك التبعات الناجمة عن نتائج "فوز المعلمين على الحكومة"، وستكون تلك العلاقة موضع فحص وضغط جديد.

بعض الرسميين يتّفق معنا على أن "ضيق اليد" للمواطن بات واضحاً ومؤثرة، لكنهم يصرون على أن الحركة الإسلامية، حملت المسألة وغذّت الإضراب بعوامل البقاء والاستمرارية.

في كل الأحوال، تغريدة الملك كانت غاضبة، وفيها من الرسائل ما يُقلِق الكثيرين، وأعتقد أن جماعة الإخوان حريصة على عدم خسارة التقارب مع الدولة، وأنها تسعى لأن تتفهم المرجعيات ما جرى.

المسكوت عنه في أزمة المعلمين

المسكوت عنه في أزمة المعلمين، يكمن في البعد المطلبي والاقتصادي الذي ساهم بشكل كبير في استمرار الإضراب وفي تعاطف الناس معه.

عدد المعلمين يتجاوز مائة ألف معلم، ومع ذلك اتفق الجميع على الإضراب، ولم تتمكن قوى الحكومة من اختراقهم، وعند السؤال عن سبب ذلك، ستجد الإجابة قابعة في أروقة الحاجة الماسة إلى تحسين الظروف المعيشية.

إن أي حالة إنكار من قبل السلطات في الأردن لكرة الثلج الناجمة عن الضيق الاقتصادي والتي بدأت تكبر وتتراكم، سيكون إنكاراً ذميماً له تبعاته ومخاطره.

الهروب للأجندات والبعد السياسي لن يحلّ المشكلة، فلا يمكن إنكار بعض السياسة بما جرى، لكن الحقيقة أن غضب الناس لم يعُد سياسيّاً بقدر كونه اقتصاديّاً وعلى قاعدة "الشعوب تزحف على بطونها".

الخاتمة: مزاج الأردنيين أخذ بالتغير

ربما منذ أحداث الجنوب عام 1989 "هبَّة نيسان"، لم نتعرض لأزمة حقيقية يمكن من خلالها قراءة حجم التغيرات التي أصابت المجتمع الأردني حكاماً ومحكومين.

لكن أزمة إضراب المعلمين شكّلَت فارقاً، وكشفت عن تغيير واسع في مزاج الأردنيين، فهذا المزاج بات اعتراضيّاً أكثر منه قابلاً بالأوضاع السائدة.

هذه الأزمة كشفت الحياة السياسية في الأردن على نحو سلبي، فالأحزاب غائبة، والنخب العتيقة تتوارى، والإعلام الحر في أضيق مساحاته، فقد توارى الجميع لمصلحة المزاج الشعبي الجديد الذي ملأ الفراغ.

ولعل مرجعيات الدولة الأردنية، من أعلى مراتبها إلى أدناها، منوط بها أن تدرس العِبَر التي تمخضت عنها الأزمة، وأن تدرك أن تغييرات كبيرة تعتمل داخل المواطن الأردني، وهذه التغيرات تحتاج إلى قراءة أعمق وكثير حصافة.

TRT عربي