تابعنا
إن أسانج وسنودن ومانينغ وسمير فيرياني وغيرهم، ليسوا مجرمين ولا خونة، بل هم ثائرون في سبيل الحرية والعدالة. لذلك فمن واجب المجتمع الحقوقي، والمناضلين باسم العدالة، أن يقفوا جمعيا صفّاً واحداً في الدفاع عنهم، فقضيتهم تمسّ كل واحد فينا.

إن قضية اعتقال جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس، ليست مجرَّد قضية اعتقال مجرم فارّ من العدالة، بل هي اعتقال أحد أبرز مؤسسي الصحافة الحرة في عصر الإنترنت. ويمكن اعتبار أسانج أحد الثوار الجدد في وقت يسود فيه العالم الرقمي. ولذلك فإن اعتقاله يُعتبر ضربة موجعة لحرية التعبير ولحقوق الإنسان، ليس فقد لأن السلطات التي اعتقلته هي ذاتها التي تدّعي الديمقراطية وصونها حرية التعبير وحقوق الإنسان، بل أيضًا بسبب تعاطي المجتمع الحقوقي معها حتى الآن.

إن جوهر تسريبات ويكيليكس هو فضحها لدبلوماسية الأبواب المغلقة التي تنتهك في غالبية الأحيان حقوق الإنسان، بغض النظر عن مكان تواجده. وبهذا المعنى لم يقُم موقع ويكليكس بكشف أسرار بعض الدول ليمسَّ أمنها القومي ويعرّضها للخطر كما يدّعون، وإنما قام بمحاولة لوضع الحكومات أمام استحقاقاتها، ومحاسبة المسؤولين الحكوميين على انتهاكاتهم، الأمر الذي من شأنه أن يدعم أحد أهمّ عناصر الديمقراطية، وهو المحاسبة والشفافية.

إن جوهر تسريبات ويكيليكس هو فضحها لدبلوماسية الأبواب المغلقة التي تنتهك في غالبية الأحيان حقوق الإنسان بغض النظر عن مكان تواجده.

إقبال حسين

كلنا يتذكر محللة الاستخبارات السابقة في الجيش الأمريكي تشيلسي مانينغ Chelsea Manning عندما قامت بتسريب ما يقرب من 700 ألف وثيقة من وثائق الجيش الأمريكي في حربة في العراق إلى موقع ويكيليكس، والتي كشفت كثيرًا من الفضائح التي ارتكبها جنود المارينز ضدّ المدنيين العراقيين.

من تلك الحوادث -على سبيل المثال- حادثة قصف طائرة هليكوبتر أمريكية مجموعةً من المدنيين عددهم أحد عشر، بالإضافة إلى صحافي ومصور من وكالة رويترز، وهي الحادثة التي ادّعى الجيش الأمريكي أنها كانت ضدّ مجموعة إرهابية مسلَّحة، ليظهر بعد ذلك وفق تلك التسريبات وبعد الاطلاع على الفيلم المصوَّر الذي قامت بالتقاطه كاميرا الطائرة أن المجموعة المستهدفة لم تكُن إلا أناسًا مدنيين يمارسون عاداتهم اليومية بصحبة أطفالهم.

لقد حوكمت مانينغ وأُودِعَت السجن لمدة 35 سنة. ولكن قبل خروجها من البيت الأبيض أصدر الرئيس الأمريكي بارك أوباما عفواً عنها لتخرج من السجن بعد أن قضت فيه سبع سنوات فقط من مدة محكوميتها. وهذا القرار من الرئيس يُعَدّ واحداً من آخر قراراته قبل أن يغادر منصبه، وربما في ذلك اعتراف منه بأن ما قامت به مانينغ لا يُعَدّ خيانة قومية، ولا إطلاق سراحها يُعَدّ مهدّداً للأمن القومي الأمريكي. وهو الأمر الذي خالفه فيه بطبيعة الحال الرئيس الحالي دونالد ترمب الذي أصرّ على أن مانينغ ليست إلا "خائنة"، وأنه "لا ينبغي إطلاق سراحها". وهذا الموقف من الرئيس ترمب غير مستغرَب بتاتاً نظراً إلى عدائه غير الخفي للصحافة الحرة.

ويمكن عَدّ اعتقال أسانج دليلاً على النفاق الغربي وتشدُّقه بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فهذه المبادئ نفسها هي التي قام عليها الغرب ذاته والتي يحاول منذ عشرات السنين تثبيتها كقيم عالمية لدعم ثقافة الإنترنت الحر والمفتوح والمتاح للجميع. ففي الوقت الذي كانت تُشَنّ فيه حملة شعواء ضدّ ويكيليكس لنشرها الحُرّ فضائح الحكومات وانتهاكاتها، كان قائد العالَم الحُرّ آنذاك الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما يحاضر العالم بقيم الحرية التي يجب أن تسود في العالم الافتراضي لشبكة الإنترنت.

ففي مايو/أيار عام 2011 نشرت الإدارة الأمريكية وثيقة أُطلِقَ عليها "الاستراتيجية الدولية للفضاء الإلكتروني- International Strategy for Cyberspace" تُظهِر بشكل حاسم الهدف الأمريكي في المحافظة على شبكة الإنترنت العالمية "كشبكة مفتوحة، تشاركية، آمنة ومستقرة". وفي مقدمة الوثيقة كتب الرئيس أوباما أنه: "في الوقت الذي باتت فيه الجريمة والتصرفات العدوانية تتسلل إلى العالم الرقمي، فسوف نجابهها بمبادئنا التي نمتلكها بوضوح، وهي: حرية التعبير وتكوين الصداقات، والخصوصية، والتدفق الحُرّ للمعلومات".

يمكن عَدّ اعتقال أسانج دليلاً على النفاق الغربي وتشدُّقه بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

إقبال حسين

ويمكن اعتبار كلام الرئيس أوباما نوعاً من النفاق، إذا نظرنا إلى قضية أحد الثوار الجُدُد في عصر الإنترنت، سنودين. وسنودين هو الذي أماط اللثام عن برنامج الحكومة الأمريكية واسع النطاق في التجسُّس الذي مسّ كل الأمريكيين عبر وكالة الأمن القومي NSA. ليس هذا وحسب، بل وتجسُّسها أيضًا على بعض القادة في العالم كالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، ورئيس البرازيل السابق لولا دا سيلفيا.

لقد شكّلَت ظاهرة ويكيليكس بديلاً أكثر مصداقية من وسائل الإعلام التقليدية للوصول إلى المعلومة، وظاهرة تتناسب مع روح العصر الذي سادت فيه شبكة الإنترنت، وباتت تسهم أكثر من ذي قبل في تغذية الأفراد بمزيد من المعلومات والبيانات التي من شأنها أن ترفع حصيلة مساهمتهم الفاعلة في إدارة شأنهم العامّ. ومن الجميل حينها أن هذه الظاهرة لم تعُد حبيسة العالم الغربي، بل تمددت إلى عوالم أخرى، حاول بعض أفرادها السير على ذات المنهج في فضح الانتهاكات الحكومية وزيادة توعية الناس.

عندنا في تونس على سبيل المثال وبعد ستة أشهر من فرار بن علي خارج البلاد، تَجمَّع عديد من التونسيين هاتفين "كلنا سمير فيرياني"، داعين السلطات التونسية إلى الإفراج عنه فورًا. وسمير فيرياني هو ضابط سابق في قوى الأمن التونسية، كشف عن عديد من قيادات الداخلية التونسية التي تورطت في قتل وتعذيب عشرات من التونسيين في أثناء الثورة التونسية، كما اتهم فيرياني عديداً من موظفي الداخلية بإتلاف عدة نسخ حساسة من الأرشيف التونسي إبان حكم ابن علي، من ضمنهم أرشف منظمة التحرير الفلسطينية التي استقرت في تونس العاصمة بعد عام 1982، ويثبت تورُّط بن علي في التعاون الاستخباراتي مع إسرائيل.

لقد شكّلَت ظاهرة ويكيليكس بديلاً أكثر مصداقية من وسائل الإعلام التقليدية للوصول إلى المعلومة وظاهرة تتناسب مع روح العصر الذي سادت فيه شبكة الإنترنت.

إقبال حسين

بالأخير علينا تأكيد أن تسريب الوثائق التي تكشف انتهاكات الحكومات لحقوق الإنسان يجب أن لا تكون جريمة يعاقب عليها القانون. إن الكشف عن هذه الحقائق يُعتبر حقّاً من حقوق الوصول إلى المعلومة التي يجب أن تُكفَل باسم القانون، والعمل على محاسبة مرتكبي تلك الانتهاكات أحد أهمّ مبادئ العدالة التي تتشدق برعايتها تلك الحكومات.

إن أسانج وسنودن ومانينغ وفرياني وغيرهم، ليسوا مجرمين ولا خونة، بل هم ثائرون في سبيل الحرية والعدالة. لذلك فمن واجب المجتمع الحقوقي، والمناضلين باسم العدالة، أن يقفوا جمعيا صفّاً واحداً في الدفاع عنهم، فقضيتهم تمسّ كل واحد فينا.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً