تابعنا
كما الأعاصير تعصف بكل شيء، تدمر وتترك وراءها الخراب والألم والمعاناة، فإن جائحة كورونا، لا تقلّ خطورة، من حيث تداعياتها، عما تخلفه هذه الظواهر الطبيعية، ولهذا فإنها ستخلف ما لا يُحصَى من الخسائر التي سترهن مستقبل الإنسانية لسنوات.

وإذا كانت القراءات المصاحبة للجائحة، تُلِحُّ في غالبيتها، على اعتباره درساً فارقاً وصفعاً مدوياً ينبغي أن يتعلم منه الإنسان في كتابة تاريخ جديد، فإن الدروس تستلزم ثمناً، وإلا اعتُبرت مجرد عظات عابرة، لن يكون لها وقع في تغيير الأحوال والعوائد، والدرس لا يكون عميقاً ومؤثراً، إلا إذا كان مخلخلاً للوثقى ومنتجاً للدهشة التي تثمر السؤال، وتعبّد الطريق نحو الفهم والاعتبار.

لكن مَن هذا الذي سيؤدي الثمن أكثر فأكثر، خلال الجائحة وبعدها؟ مَن سيختبر ألم الصفعة، وخراب الإعصار، أكثر فأكثر؟ وهل يمكن القول بأن لا عاصم اليوم وغداً من هذي الآثار والتداعيات والإرباكات والمراجعات العسيرة، وأن الشمال كما الجنوب، والشرق كما الغرب، سيعرف سنوات عجافاً، وسيتعذّر على الجميع رتق الخرق المتسع، وتدبير "الألم" بمزيد من التبصر والنجاعة السياسية؟

خلال بدايات هذه الجائحة، طلع علينا مهنيو الصحة الذين يراقبون تفشي الوباء، بتوصيف "تسطيح المنحنى"، باعتباره هدفاً رئيسياً لإجراءات الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي المطلوب، ذلك أن احتمال القضاء على الوباء، والتخلص من ويلاته، يفترض تسجيل صفر حالة في عشرة أيام متتالية على الأقلّ، بما يجعل المنحنى مسطحاً، غير ناتئ بالمرة، إلا أن "تسطيح المنحنى" هذا وإن لم يحدث، إلا بعد لأي، وفي دول معدودة، فإنه كان حاضراً في مستويات الاقتصاد الذي انشلت حركيته كلياً، واعتلّ بعائد صفري في كثير من سلاسل الإنتاج والإمداد.

طبعاً لا أحد يمكنه الحديث بإطلاقية ناجزة عن المرحلة اللاحقة، بل قد يكون الحديث مبكراً عن حجم الخسائر والعالم لم يلملم بعدُ جراحاته، ولم يُحصِ كل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لجائحة كورونا، لهذا فقد يُعتبر هذا التخمين الاستباقي من باب الإفراط في النزعة التشاؤمية، خصوصاً أن احتمالات الخوض فيه، لا تخرج في الغالب عن توقُّع الأسوأ وتقدير موقف كارثي، ومع ذلك لا مناص من التفكير استشرافاً وتأملاً في المخرجات، ما دامت المدخلات معيشة ومختبَرة واقعياً.

لقد علمتنا وقائع الحروب أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأن الذين ذاقوا طعم الهزيمة أو دفعوا ثمن الانتصار من حياتهم وصحتهم، لا أحد ينتبه لرواياتهم وشهاداتهم المكلومة، وهو ما يصدق أيضاً على زمن النوائب والجوائح، حيث لا تنشغل الميديا إلا بالسياسي والتكنوقراط، مسيساً ومدبراً لجائحة كورونا، فيما الذين هم تحت، لا يحضرون إلا لتأثيث المشهد وشرعنة القائم من أوضاع.

فمن يدفع الثمن اليوم، موتاً ومرضاً وفقراً وعنفاً بسبب الجائحة، يكُن في الغالب، هو نفسه الذي كان يختبر هذه المآسي سابقاً، فالفئات الهشة هي التي تدفع الثمن، أكثر فأكثر، وفي مختلف الحالات والمآلات. فالوباء لن ينتج الموت والمرض وحسب، بل سيزيد احتمالات البؤس والحرمان واللا-عدالة الاجتماعية، وسيعمّق التفاوتات الطبقية ويزيد تأزُّم الأوضاع السوسيو-اقتصادية للفقراء بدرجة أكبر.


لقد أوصد كثير من المصانع أبوابه، ولم تتردد في صرف العمال وقطع رواتبهم، كما أن الكثير من المُياومين الذين يدبّرون بالكاد خبزهم اليومي، في إطار أنشطة "بطالة مقنَّعة" لا غير، سيمنعهم الحجر الصحي من العودة إلى اقتصاد الظل غير المهيكل، ولن يكون في مقدورهم تأمين دخل يومي يساعد على التفاوض مع الفقر والهشاشة.


ففي المغرب مثلاً، تفيد الأرقام بأن القطاع السياحي يعرف شللاً تامّاً بنسبة 100 بالمئة، وأن القطاعات التصديرية في مجال السيارات تراجعت بنسبة 96 بالمئة، والطيران بنسبة 80 بالمئة، فيما تراجعت تحويلات مغاربة الخارج، التي تشكل مورداً رئيساً للعملة الصعبة، بنسبة 30 بالمئة.

هذا فضلاً عن الخلل الكبير في سلاسل الإمداد والإنتاج بسبب إغلاق الحدود، التي جعلت الكثير من القطاعات يعرف "موتاً سريرياً"، له من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية ما لا يمكن حصره بدقة متناهية.

طبعاً لا أحد بمعزل عن الكارثة، فلأول مرة يبدو العالم كله، كأنه في سفينة واحدة، ومع ذلك فمن الدول مَن ستتضرر أكثر فأكثر، تبعاً للإمكانيات والسياسات والتدابير المتنوعة، مما يضعها جميعاً أمام ما زرعته سابقاً من "دولة رعاية"و"غرس ديمقراطي"، أو في المقابل، من "دولة حارسة" و"تسلط استبدادي". علماً أنه في الصيغتين معاً، يبقى آل القاع الاجتماعي الأكثر تضرراً وتأدية لثمن "الحرب".

ولهذا يُتوقع أن تكون تداعيات الجائحة أكثر إيلاماً في دول الجنوب، التي لم تحلّ بعدُ "خلافاتها" مع مواطنيها بشأن قضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي.

فقبل انتشار فيروس كورونا، كانت هذه الدول تعيش ربيع الشعوب، احتجاجاً على سوء الأحوال الاجتماعية والسياسية، تماماً كما هو الأمر مع السودان ولبنان والجزائر والعراق.

كما أن دولاً أخرى لم تستطع الخروج من ويلات الحروب وحالة اللا-استقرار السياسي، وتحديداً في اليمن وليبيا، وبالطبع فإن حلول الجائحة سيزيد تأزيم الأوضاع وإذكاء الشروط المؤسسة قبلاً للاحتجاج. فلم يمنع كوفيد-19 المتضررين في المغرب، من تَسَطُّحِ منحنيات الاقتصاد، من الاحتجاج، وباعتماد التباعد الاجتماعي، طلبا للاستفادة من مساعدات الدولة، وهو ما تواصل بصيغ أخرى في سلوفينيا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا، التي سُجلت فيها أعلى مستويات البطالة خلال هذه الفترة الحرجة.

لم تكتف الجائحة إذاً بصناعة الموت والمرض، ولم تحضر بأبعاد بيولوجية طبية خالصة فقط، بل كانت لها أبعاد وسياقات وتداعيات تتصل بالاجتماعي في ممكناته السياسية والإنسانية والاقتصادية والثقافية.

وفي كل ذلك كان الانهيار أفقاً واختباراً. الانهيار كواقعة تحيل على السقوط والإرباك والخسارة. فالاقتصاد العالمي، وفي دول الجنوب أكثر، يخوض معركة حياة أو موت، وتتهدده "السكتة القلبية"، ولن يكون في مقدوره الخروج من هذه "الجائحة/الأزمة" دون كوارث مالية قد ترهن مؤشرات البورصة ولثلاث سنوات على الأقل، وفقا لتوقعات المحللين الاقتصاديين، فليس هناك ما يشير إلى أن اقتصاديات الجنوب، وحتى الشمال، ستتعافى سريعاً من وقع الجائحة.

إن الأسابيع المعدودة التي جربت فيها الدول الحجر الصحي، أحدثت اختلالات كبرى في النسيجين الاجتماعي والاقتصادي، ناهيك بما أحدثته من شروخ نفسية وحالات عنف وتوتر على المستوى الفردي، كل هذا جعل زمن الجائحة "جحيماً" يهدّد صروح الاقتصاد والاجتماع، ويوجب التفكير في طرائق جديدة، لإنعاش الأسواق وتحريك عجلة الإنتاج، ولكن في إطار حفظ الصحة والاحتراز من شيوع جديد للفيروس.

فالرفع الجزئي للحجر الصحي المتخَذ من بعض الدول، لا يعني بالمرة استعادة لذات الطقوس اليومية لما قبل كورونا، فالتباعد الاجتماعي والاحتياط الصحي سيظلان ملازمين للفعل الإنساني في سياقات الـ"ما بعد" والـ "عن بُعْد"، لهذا فالرهان الأصعب اليوم هو إطلاق دينامية الاقتصاد من جديد، ودون استحداث لبؤر جديدة للوباء.

من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، الكل منشغل بإعادة تنشيط الاقتصاد، وكفّ الخسائر، وعودة الحياة الطبيعية، ولو بحذر شديد، ولكن الجميع موقن بأن الفيروس لم يعلن نهاية الحرب، وأن انتكاسة جديدة أو تطوراً لشكل الفيروس، ممكن الحدوث، في ظل غياب اللقاح الفعَّال.

فاللا-يقين هو ما ينتصر في أزمنة الجائحة، و"تسطيح المنحنى" الذي اتخذه إحصائيو الوباء من مهندسي الصحة هدفا مركزياً، لإمكان رفع الحجر الصحي، والحلم بالقضاء على الوباء، بات عنواناً للمرحلة، وللاقتصاديات كافة. والخوف كل الخوف، أن ينتقل "التسطيح" إلى الفكر والوعي والقيم والمشاعر.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي