جمعية مصارف لبنان (Others)
تابعنا

ورغم محاولات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي التخفيف من أهمية هذا الإعلان، تارة بزعم أن كلام الشامي أسيء فهمه، وتارة أخرى بأنه جرى اجتزاؤه، إلا أن معظم الخبراء الاقتصاديين أكدوا صحة ما قاله نائب رئيس الحكومة، وأثنوا على شجاعته في مصارحة اللبنانيين بالواقع الاقتصادي.

فالدولة ومصرفها المركزي عاجزان عن سداد أموال المودعين المحتجزة في المصارف، والسلطة اللبنانية تهرب إلى الأمام بتجنّب مصارحة اللبنانيين هرباً من السخط الشعبي، أقلّه حتى موعد الانتخابات النيابية المقررة منتصف الشهر المقبل. علماً بأن المؤشر الأوضح للإفلاس انكشف قبل أكثر من عاميْن، حين امتنعت الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب عن سداد سندات اليوروبوند دون تفاوض أو تواصل أو استمهال من الجهة الدائنة.

في مقابل هذه الصورة القاتمة، تبرز صورة أخرى لبعض المتفائلين، يؤكدون أن الإفلاس في حال حصوله، يُفترض أن يترافق مع انهيار كامل لإدارات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية والإدارية، وهو ما لم يحصل رغم مرور قرابة سنتيْن على بدء الأزمة الاقتصادية والنقدية. وهو حسب هؤلاء مؤشر إيجابي يدلّل على أن لبنان استطاع تجنّب الانهيار، والمصرف المركزي نجح في تجنّب الإفلاس، بعدما باتت الأمور على طريق الحل، والمرحلة المقبلة تبشر بتحسّن الأوضاع وتوفير الخدمات، وانطلاق مسار الخروج من الأزمة الحالية، بخاصة إذا شرع صندوق النقد الدولي بتقديم مساعداته المالية للبنان. لكن آخرين قلّلوا من شأن تأخر إعلان الإفلاس كمؤشر على تجاوز الانهيار، واعتبروا أنه لا يستند إلى أسس اقتصادية ومالية صحيحة، بل جاء نتيجة مكابرة السلطة، وتفريطها في ما تبقى من مقدّرات احتياطية مالية لدى مصرف لبنان. وأن هذا الأداء ربما يكون قد نجح بشراء بعض الوقت، لكن الأوضاع في النهاية متجهة نحو الإفلاس، والمرحلة المقبلة ستكون أسوأ من الحالية، والإفلاس الذي تتجنّبه السلطة حاصل سواء أعلنت عنه أم لم تعلن.

خطورة الانهيار الاقتصادي في لبنان، لا تقتصر آثاره على اللبنانيين على أرضه، بل تمتد لمن هم خارجه. ما ساهم بذلك، هو أن الكثير من الأموال المودعة في المصارف اللبنانية لا تعود إلى المقيمين، بل إلى رجال أعمال عرب وأجانب، جذبتهم السرية المصرفية التي يتمتع بها القطاع المصرفي، فكانت المصارف اللبنانية ملجأ الأموال التي يسعى أصحابها إلى إخفائها أو تبييضها. عامل آخر ساهم في اجتذاب رؤوس الأموال والودائع لا سيما المغتربين اللبنانيين، وهو نسبة الفائدة العالية التي قدمتها المصارف، بنسب تفوق ما تقدمه المصارف خارج لبنان في البلاد التي يعيش فيها المغتربون.

انعكاسات الإفلاس النقدي في لبنان لم تنحصر لأصحاب الحسابات الفردية لبنانيين أو أجانب، بل تعدّى ذلك للتأثير على دول يتقاطع اقتصادها مع الاقتصاد اللبناني، وفي مقدمة هذه الدول سوريا. ففي نوفمبر/تشرين الأول من العام 2020 قال الرئيس السوري بشار الأسد إن ودائع بمليارات الدولارات لسوريين محتجزة في القطاع المالي اللبناني، وأن هذا هو سبب رئيسي وراء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. واعتبر الأسد أن ما بين 20 مليار و42 مليار دولار من الودائع ربما تكون فُقدت في القطاع المصرفي اللبناني. وفي كلمة له -بعد أداء اليمين الدستورية لفترة رئاسية رابعة في يوليو/تموز من العام الماضي، كرر الرئيس السوري أن العائق الأكبر أمام الاستثمار في سوريا يتمثل في الأموال المجمّدة في البنوك اللبنانية المتعثرة. واعتبر أن بعض التقديرات تشير إلى وجود ما بين 40 مليار و60 مليار دولار من الأموال السورية المجمّدة في لبنان. كما يؤكد مصرفيون بأن عدداً كبيراً من الشركات السورية كانت تلتف على العقوبات الغربية المفروضة على الدولة السورية منذ بدء الأزمة، باستخدام النظام المصرفي اللبناني لاستيراد البضائع غير المسموح بها لتصل إلى سوريا براً. كما سبق لرجال أعمال سوريين أن أودعوا مبالغ في البنوك اللبنانية منذ عام 2011، لضمان عدم تأثرها بالأحداث الأمنية والاقتصادية، ولحمايتها من هيمنة النظام السوري عليها. كل هذه الأموال ربما تضيع في المصارف اللبنانية إذا أعلنت الأخيرة إفلاسها، وسيزيد ذلك من حدة الأزمة الاقتصادية السورية.

سوريا ليست وحدها من ستتأثر بالانهيار الاقتصادي في لبنان، فالعراق لن يكون بعيداً عن المشهد. ففي تقرير نشرته شركة "ديلويت" الدولية للتدقيق حول صادرات نفط إقليم كردستان العراق لعام 2021، كشف أنه "في نهاية الربع الرابع من عام 2021 لا يزال 294 مليون دولار و310 ملايين يورو من إيرادات حكومة إقليم كردستان محفوظاً في حسابات مصرفية في لبنان، وما زالت المصارف في لبنان تقيد حركة العملات الأجنبية إلى خارج البلاد". وحسب متابعين لملف الأموال العراقية في المصارف اللبنانية، فإن هذا الحساب هو واحد من أصل عشرات وربما مئات الحسابات التي تعود إلى رجال أعمال عراقيين ومسؤولين سياسيين وأموال عامة عائدة إلى الدولة العراقية عالقة في المصارف اللبنانية، ويصل تقديرها إلى حدود 17 مليار دولار.

لايختلف اثنان على أن فساد السلطة في لبنان وقلّة خبرتها عامل أساسي ساهم فيما وصل إليه الاقتصاد من انهيار، لكن ذلك يجب أن لا يخفي عاملاً آخر يتشارك فيه لبنان مع كثير من الدول العربية غير النفطية. فالاقتصاد اللبناني اقتصاد ريعي غير منتج، قائم بشكل رئيسي على قطاع الخدمات، تجارية وسياحية ومصرفية. وعلى مدى العقود الماضية والحكومات المتعاقبة، جرى إهمال قطاعَيْ الزراعة والصناعة، ولم تخصص لهما موازنات مالية لدعمهما وتطويرهما، في حين انصبّ الاهتمام على قطاعيْ التجارة والخدمات. هذا الأداء أدى على مر السنوات إلى ضعف وترهّل قطاعيْ الزراعة والصناعة وتدميرهما، الأمر الذي أدى إلى الانهيار الحاصل وسرّع به.

الاقتصاد الريعي غير المنتج يسري على العديد من الدول العربية، والانهيار الذي يعاني منه لبنان ربما تصل عدواه إلى دول أخرى، اعتادت أن تنتظر عطايا ومساعدات الخارج، لأنها لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي