مجموعة من الناس يتجمهرون على بوابة فرن لشراء الخبز (Others)
تابعنا

بسلاسة أيضاً انتقل الإنسان العربي من الانشغال بازدياد عدد الإصابات واللقاحات وأخبار الإغلاق العام، إلى متابعة حصيلة الخسائر بين الطرفين ومحاولة التنبؤ بإمكانية قيام حرب عالمية من عدمها.

يبدو للوهلة الأولى أن الإنسان العربي اكتفي بمهمة المتفرج فبدأ يتلقى أخبار العالم وكأنه يشاهد فيلماً تسجيلياً من كوكب آخر، دون إبداء ردة فعل تذكر على صعيد العمل على تغيير واقعه ومحاولة تحسينه.

منذ ما يقارب العقد كان للإنسان العربي ذاته الرغبة والقدرة على زحزحة خريطة العالم وهز أركانه، حين انطلقت ثورات الربيع العربي في تحدّ صارخ لأنظمة الاستبداد المسيطرة على العالم العربي، كان يؤمن بقدرته في تلك الآونة عازماً على استخدامها، إلا أن ما مُنيت به هذه الثورات، من طعنات من الخلف وانقلابات عليها واعتقال وتغييب لقادتها، جعل من كانوا في الخطوط الأمامية يتراجعون ويبطئون خطاهم جراء حالة اليأس التي أصابتهم بعد انحسار أملهم في التغيير.

لم يكن العامل السياسي هو الأكثر تأثيراً في انكفاء الجماهير عن الرغبة بالثورة، فاليأس الذي منع مناهضي الاستبداد من التحرك فيما بعد لم يكن السبب المؤثر لدى الأعم الأغلب، ذلك أن التحولات الاقتصادية التي شهدها العالم إبان ثورات الربيع العربي والآثار التي انعكست على العرب بشكل عام جعلت الإنسان في سباق مع الزمن من أجل تأمين حالة الكفاف لضمان البقاء على قيد الحياة.

لقد كان للعامل الاقتصادي في العالم العربي قوة عظمى طغت على بقية المتطلبات والاحتياجات التي تكون في مقدمة أهداف الإنسان الحر، فالتضخم العالمي وتعويم العملات في الشرق الأوسط جعل المواطن يرزح تحت ضغط مضاعف، ارتفاع الأسعار الخرافي في مواجهة دخل الفرد المتدني من جهة، وإحساس الإنسان بانعدام قيمته وسلب حقوقه من جهة أخرى.

تعرض المواطن لحرب استنزاف نفسية واقتصادية خلال سنوات متعاقبة ولأسباب مختلفة، جعلته زاهداً في العمل السياسي ويائساً من معاودة الحلم واستعادة السلطة من غاصبيها، أصبح همه محدوداً بالحصول على الكفاف والعيش بسلام بلا نزوح وتهجير وقتل ممنهج، لكن ذلك بدأ يتغير مع الوقت بعد أن بدأ يعجز مع الضغط الاقتصادي عن تأمين كفافه.

يتوقع محللون أن الانفجار العظيم قادم لا محالة، فوفقاً لتصريحات الأمم المتحدة أن الغزو الروسي لأوكرانيا سيوجه ضربة قاسية للاقتصاد العالمي، بخاصة في البلدان النامية الفقيرة التي تواجه ارتفاعاً هائلاً في أسعار المواد الغذائية والوقود والأسمدة، وتشهد الآن ضغطاً على المواد الاستهلاكية الأولية، إذ إن أكثر من نصف إمدادات العالم من زيت عباد الشمس يأتي من روسيا وأوكرانيا، وحوالي 30 في المئة من القمح العالمي، كما أن أسعار الحبوب زادت بالفعل في مستهل الربيع العربي.

45 دولة إفريقية أيضاً، ودولٌ أقل نمواً، تستورد ما لا يقل عن ثلث إنتاجها من القمح من أوكرانيا وروسيا، 18 دولة منها تستورد 50 في المئة على الأقل، مثل مصر والكونغو وبوركينا فاسو ولبنان وليبيا والصومال والسودان واليمن، ما ينبئ بأزمة اقتصادية حقيقية لأن هذه الدول الأشد فقراً قد لا تتحمل حجم الضرر الحاصل، ما يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات في جميع أنحاء العالم.

ربما ليس لتأثير الحرب على أوكرانيا أثر مباشر على تغير الظرف الخاص باندلاع الثورات مجدداً أو عدم اندلاعها، إلا أن التأثير المتوقع جراء ندرة بعض المواد الاستهلاكية التي كانت أوكرانيا وروسيا المصدر الأول لها، وبالتالي ارتفاع أسعارها، الأمر الذي بدأ يظهر حقيقةً في بعض الدول العربية، قد يكون عاملاً محفزاً لزيادة الاحتقان الجماهيري، وإذا جمعنا ذلك مع الآثار السلبية لحالة الإغلاق بسبب فيروس كورونا وانتهاء مدخرات كثير من المحسوبين على الطبقة المتوسطة، إضافة إلى حالة الكبت السياسي وانعدام الأمل بجدوى التغيير الذي تعد فيه الحكومات شعوبها مراراً وتكراراً، فإن تلك الأسباب قد تشكّل مجتمعةً سبباً سيؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى مرحلة غليان عام قد يشكّل مفصلاً تاريخياً في حياة البلاد العربية.

قد ينكر بعض المتطرفين حالة الغليان التي قد تعيشها الشعوب اقتصادياً وما قد ينبثق عنها من نتائج قد تحمل معها فكراً ثورياً أو تمرداً ضد الأنظمة، ويعتبرون أن الثورات القائمة على أسباب اقتصادية ليست سوى "ثورات جياع" لا ترقى إلى أن تكون ثورات بالمعنى الحقيقي، وأن الحراكات السياسية الحقيقية ذات المغزى والجوهر لا تتشكل إلا لأهداف تتعلق بالحقوق والحريات وتغيير شكل الحكم وتحقيق انتقال سياسي يحفظ كرامة الإنسان، غير أن تلك المحاكمة تبدو بعيدة عن الواقع ومترفعة عن الغوص في احتياجات الشريحة الأوسع التي تشكل أكبر نسبة من الشعوب اليوم.

تتدرج احتياجات الإنسان وفقاً لهرم "ماسلو" بما يتناسب مع حاجاته الغريزية الضرورية لضمان البقاء أولاً، وتعد هذه الحاجات نفسها دوافع لتحركه، وتتلخص هذه الاحتياجات في: "الاحتياجات الفسيولوجية، وحاجات الأمان، والاحتياجات الاجتماعية، والحاجة للتقدير، والحاجة لتحقيق الذات"، ما يعني، بالإسقاط على الحالة التي نذكرها، أن حاجات الإنسان الفيسيولوجية تأتي في المقدمة حتى يضمن الإنسان بقاءه ومن ثم ينتقل إلى تحقيق الحاجات المعنوية من تواصل اجتماعي أو تحقيق للذات أو استرداد الحقوق السياسية.

لم يعد لدى الإنسان العربي اليوم ما يخسره سوى وجوده الفيزيولوجي، وبات يعمل في سباق مع الزمن لتأمين القوت المعيشي الذي يسد رمق عائلته مضحياً بالمكتسبات السياسية والمعنوية، ولأن اقتصادات الدول العربية هشة تعتمد على الاستيراد ولا تحقق اكتفاءً ذاتياً فقد تكون من أوائل المتأثرين بتوابع الأزمات السياسية والعسكرية، وقد تصل إلى اللقمة التي يحارب من أجلها اليوم الإنسان العربي بسرعة مهولة، ما قد يجعله في مواجهة أزمة غير متوقعة ربما تتحول إلى ثورات جامحة قد تحقق ما عجزت عنه الحراكات السياسية المنظمة.

إن القوة الأساسية التي يجب أن تستند إليها السلطة هي القوة البشرية، وهي العامل الحقيقي في تحقيق التوازن والاستقرار السياسي، غير أن الأنظمة العربية الهشة المعتمدة على الرعب قد لا تدرك قوة ومكانة الخزان البشري وقد تفلت منها خيوط اللعبة السياسية على حين غرة.

ما يحدث اليوم توارد ردات فعل متفرقة لتفريغ الغضب الداخلي قد تأتي على شكل مناشير رافضة ومنددة بالوضع المتردي، أو فيديوهات تتحدث عن سوء الوضع المعيشي والاقتصادي في أماكن مختلفة، أو دعوات غير منظمة لقيام الشعوب والثورة ضد الاختناق الاقتصادي ورفض انحسار وتقييد الحريات.

وعلى الرغم من أن ردات الفعل المتفرقة قد لا تشكل عملاً ثورياً أو سياسياً منظماً، فإنها قد تكون بمثابة قنابل موقوتة إذا انفجرت واحدة منها ستنفجر الأخريات واحدة تلو الأخرى مشكّلة قوة عظيمة وهائلة قد لا يمكن الوقوف في وجهها.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً