تابعنا
في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولى في يوليو/تموز الماضي يتوقع الصندوق تراجع النمو العالمي من 3.5% تقريباً عام 2022 إلى 3.0% في عامَي 2023 و2024

بدأ العام الحالي بحالة من التفاؤل الاقتصادي لكنّه مشوب بالحذر حول عودة تعافي الاقتصاد العالمي من الصدمة التي تزامنت مع جائحة كورونا، لا سيّما في ظل استمرار توسع الحكومات والبنوك المركزية حول العالم في اتباع السياسات التشدّدية في إطار محاولاتها المضنية لكبح جماح التضخم المشتعل في جميع أرجاء المعمورة، مع ضمان الاستقرار المالي توازياً مع تقديم مساندات مقبولة للجماهير العريضة التي تئنّ تحت معدلات التضخم المرتفعة.

ومع مرور النصف الأول من العام، تراجعت بشكل نسبي حالة التفاؤل حول تعافي الاقتصاد العالمي، وفق صندوق النقد الدولي، إذ أصبحت الآفاق محفوفة مجدداً بمخاطر الارتياب وسط اضطراب القطاع المالي، وارتفاع التضخم، والآثار المستمرة من الغزو الروسي لأوكرانيا والتي من المرجح أن تتعاظم جرّاء وقف الجانب الروسي للعمل باتفاقية الحبوب.

بالإضافة إلى استمرار بعض تداعيات جائحة كورونا على مدار الثلاث سنوات الماضية، وكلّها أمور قلّصت قدرة الحكومات على المواجهة المستدامة للتضخم، وأجبرت البنوك المركزية على الاستمرار في سياسات رفع سعر الفائدة.

تراجع نمو الاقتصاد العالمي

وفي تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولى في يوليو/تموز الماضي يتوقع الصندوق تراجع النمو العالمي من 3.5% تقريباً عام 2022 إلى 3.0% في عامَي 2023 و2024، ولا تزال هذه المعدلات متدنية قياساً على نظيراتها في السنوات السابقة، ويبرّر الصندوق ذلك باستمرار التأثير السلبي لرفع أسعار الفائدة الأساسية الصادرة عن البنوك المركزية لمواجهة التضخم على النشاط الاقتصادي.

ورغم توقع الصندوق انخفاض التضخم الكلي العالمي من 8.7% عام 2022 إلى 6.8% عام 2023 و5.2% عام 2024، إلّا أنّه يتوقع أن يكون تراجع التضخم الأساسي (الجوهري) أكثر تدرجاً، بل ربّما ينمو مجدداً حال وقوع مزيدٍ من الصدمات، بما في ذلك نتيجة تفاقم الحرب في أوكرانيا وأحداث الطقس المتطرفة، علاوةً على تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين، وهو ما يُعزى جزئياً إلى المشكلات القائمة في قطاع العقارات والتي قد تنشأ عنها تداعيات سلبية عابرة للحدود.

وممّا يدلل على صحة هذه التوقعات، إعلان مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عقب اجتماعه الشهري، لشهر يوليو/تموز الماضي، أنّه رفع أسعار الفائدة الأساسية بمقدار 25 نقطة أساس إلى نطاق 5.25% - 5.5%.، وذلك في أعقاب إعلانه في وقت سابق من الشهر ذاته توقع بدء الركود في الاقتصاد الأمريكي، في وقت لاحق من هذا العام.

الركود يضرب اقتصادات العالم الكبرى

ونتيجة منطقية للتشديد النقدي من خلال رفع سعر الفائدة في معظم الاقتصادات الكبرى حول العالم، بالإضافة إلى فرض مزيدٍ من الضرائب في محاولة لتقليص الطلب الكلي، أفضت السياسات إلى توقعات بحتمية الدخول في موجة ركود عالمي قد يصعب الفكاك منها في الأجلَين القصير والمتوسط.

وفي سبتمبر/أيلول 2022، كشفت دراسة أصدرها البنك الدولي أنّ العالم قد يتجه نحو ركود اقتصادي خلال 2023، وسلسلة من الأزمات المالية في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية ستُسبِّب لها ضرراً دائماً، مشيرةً إلى أنّ "أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم -وهي الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو- تشهد تباطؤاً حادّاً للنمو، وأنّ مجرد وقوع صدمة خفيفة للاقتصاد العالمي خلال 2023 قد تهوي به في غمرة الركود".

ومع بداية العام الجاري، حذّرت رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، من أنّ عام 2023 سيكون أصعب على الاقتصاد العالمي، متوقعةً أن يدخل ثلث الاقتصاد العالمي في حالة ركود، وعملياً فقد سقط الاقتصاد الألماني فى فخ الركود مع دخول البلاد في انكماش تقني، أي فصلين متتاليين من التراجع.

وحسب بيانات رسمية ألمانية، فقد سجّل الاقتصاد انكماشاً تقنياً في الربع الأول من عام 2023، إذ انخفض إجمالي الناتج المحلي للبلاد بنسبة 0.3% بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار الماضيَين، بعد تراجعه أيضاً بنسبة 0.5% بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2022، لتدخل ألمانيا في انكماش تقني، للمرة الأولى منذ الجائحة.

ووفق رأي معظم الخبراء الاقتصاديين في استطلاع أجرته الرابطة الوطنية لاقتصاديات الأعمال (NABE) في مارس/آذار الماضي، من المتوقَع أن تدخل الولايات المتحدة -على الأرجح- في حالة ركود خلال العام الجاري، وستواجه تضخماً مرتفعاً حتى العام القادم 2024.

أزمة المديونية تعصف بالدول النامية

ويحذّر صندوق النقد الدولي من انتشار أزمة المديونية السيادية الحرجة إلى مجموعة أوسع من الاقتصادات، ففى أعقاب جائحة كورونا، ارتفعت الديون العالمية حتى بلغت 58% من أشدّ بلدان العالم فقراً مرحلة المديونية الحرجة أو معرضة لبلوغها بدرجة كبيرة.

يذكر أنّ بذور أزمة الديون قد نُثرَت قبل الجائحة بمدّة طويلة، حيث ارتفع الدَّين العام بين عامَي 2011 و2019، في عينة من 65 بلداً نامياً بنسبة 18% من إجمالي الناتج المحلي في المتوسط، وبنسبة أكبر بكثير في عديدٍ من الحالات، منها على سبيل المثال منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، والتى زادت ديونها بنسبة 27% من إجمالي الناتج المحلي في المتوسط.

ولا شك أنّ أزمات الديون والتوقف عن السداد وإعلان الإفلاس لعديدٍ من الدول الفقيرة ستلقي بظلالها السلبية على آفاق النمو الاقتصادي، ولذلك فقد كانت وصية البنك الدولي للدول الكبرى بطرح مبادرات عالمية تسهل عملية إعادة هيكلة المديونيات للدول الفقيرة، مشدداً على ضرورة التوصل بسرعة إلى اتفاق يخفف عن البلدان التي تتحمّل أعباء مفرطة من الديون.

ويمرّ العالم حالياً بأزمات عدّة تدفع نحو تباطؤ النمو وترجيح الدخول فى دوامة الركود، وهو الأمر الذي يحتم استمرار تعاضد السياستين المالية والنقدية في مواجهة التضخم وتخفيف الضغوط الناجمة عن تكلفة المعيشة، مع مراعاة اتخاذ الإجراءات الّلازمة؛ لتفادي موجات الركود المتوقعة، إضافةً إلى مساندة الدول النامية في تخطي أزمة المديونية، وكلها إجراءات قد تساعد في نثر التفاؤل الاقتصادي للفترة القادمة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً