التوقعات صادمة بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي (AP)
تابعنا

في الوقت الذي احتفظت فيه بأسسها الأصيلة وهياكلها ومؤسساتها التي طُوّعت لتحقيق الهيمنة لمجموعة قليلة من الدول مثّلت الرأس الكاسح للأغلبية الكسيحة من دول المعمورة.

وامتطت الرأسمالية بنسختها القديمة الإصدار الأول من العولمة عبر المستعمرات القديمة، كما انقضّت على الثورة التكنولوجية، والمؤسسات الاقتصادية والقانونية الدولية على الإصدار الثاني، الذي رسخ الهيمنة للدول الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وأضحت بقية دول العالم تابعة اقتصادياً وسياسياً لهذا الرأس، تتحرك وفق خطط وآليات ومهام مرسومة، عبر مفاتيح مخزونة في أدراج مكاتب البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي.

ومنذ تفشّي فيروس كورونا وبروز تداعياته على حركة النشاط الاقتصادي العالمي بات من الواضح أن ثمة إرهاصات لتغييرات على المسار الاقتصادي العالمي، وبدأ المفكّرون الاستراتيجون في رسم سيناريوهات للشكل المتوقع للعالم الاقتصادي ما بعد كورونا، انطلاقاً من مجموعة من الأزمات المتوقعة كنتيجة لتنامي الإغلاقات ومشاكل سلاسل الإمداد والتوريد، وشح المعروض من الإنتاج لبعض السلع، وتنامٍ كبير في الطلب لمستهلكي وشركات الدول الغنية والتي أفرطت بنوكها المركزية في التعويضات والأموال التي أغدقتها عليهم لتعويض تداعيات الفيروس، سواء بصورة مدفوعات مباشرة، أو من خلال خفض سعر الفائدة وإتاحة تلال الأموال بصورة شبه مجانية.

ورغم اختلاف الاستراتيجيين حول الشكل الجديد للعالم الاقتصادي والذي لا يزال قيد التشكّل، إلا أن السيناريوهات المتوقعة استبعدت انحسار العولمة، واستبداله بتغيير تكتيكي قد يأخذ شكل أقلمة أو محلية للإنتاج العالمي، والذي استوطن بصورة إجمالية دول شرقي آسيا خلال العقود الثلاثة الماضية، والذي كشفت كورونا الخطورة الاستراتيجية في استمرار الاعتماد عليه كمصنع، فشل فعلياً في توفير احتياجات العالم السلعية آناء الأزمة، ويدعم هذا الاتجاه بشدة الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.

أيّاً ما كان الشكل العالمي الجديد فإنّ له تأثيرات كبرى على الدول النامية التابعة، فنقل المصنع الآسيوي يتطلب دولاً تستوفي شروطاً ومعايير سياسية واقتصادية، على رأسها قرب الموقع الجغرافي، وتوافر اليد العاملة الرخيصة والمدربة، بالإضافة إلى الإمكانات اللوجستية الكبيرة والخبرات الصناعية المتراكمة، وهو الأمر الذي يشكّل فرصة لبعض الاقتصادات الناشئة لإعادة التموضع في الاقتصاد العالمي بصورة أكثر تأثيراً وعمقاً.

على الجانب الآخر، فإن المطلوب من هذه الدول المتطلعة للنهوض هو كامل الانصياع والتبعية لأدوات ومؤسسات النظام العالمي الراسخة، فالاقتراض من صندوق النقد الدولي، والانصياع الكامل لاشتراطاته المجحفة لحقوق الشعوب في الدعم الحكومي، بالإضافة إلى التماهي مع النظام المالي العالمي المرتكز على معدل الفائدة الذي يُستخدم لجذب الأموال الساخنة التي تُستثمر في الديون العامة، والتي تلهث متنقلة بين الدول الأكثر ارتفاعاً لمعدل الفائدة، ولتقبع الدول تحت التهديد الدائم برفع أمريكا لسعر الفائدة الذي يعني هروب تلك الأموال، وذلك يعني ببساطة أن الطموح نحو موضع اقتصادي جديد لن يكون سوى عبر تلك الآليات.

أما عن التهديدات التي تواجه الدول النامية ففي مقدمتها عودة شبح الجوع والفقر المدقع والذي أوشك العالم أن يتخلص منه، ورغم نجاح مؤسسات الهيمنة برسم صورة القضاء على الجوع في العالم كأحد أهم نجاحاتها خلال العقود الأربعة الأخيرة، إلا أن التفاوت الحاد في توزيع الدخول بين دول العالم المختلفة، والذي كرّسته هياكل ومؤسسات العولمة حافظ على بدائية وهشاشة الأنظمة الاقتصادية في أغلب دول العالم، والتي سرعان ما تنتكس جراء تأثير أي متغيرات سلبية على المستوى العالمي.

‍يضاف إلى ذلك التوغل في استغلال العمالة، سواء من خلال نزوح العقول الماهرة إلى الدول المتقدمة، أو من خلال استغلال العمال المحليين حتى من فروع الشركات العالمية التي استوطنت الدول النامية التي تُقدّم لهم أقل من عُشر الأجر في مواطنها الأصلية، واضطر العمال لقبولها هي وظروف العمل السيئة.

كما أن التقدّم التكنولوجي يحرم البلدان النامية من إمكانية المنافسة حتى على أراضيها، حيث تتطلب المنافسة تكاليف استثمارية لا قِبل لهم بها، علاوة على تلويث واستنزاف البيئة والموارد المحلية، والتهرّب الضريبي من خلال تسجيل الفرع الرئيس للشركات في الملاذات الضريبية حول العالم والتي يحرم موازنات الدول النامية ومواطنيها من تلك الإيرادات.

كل ذلك بالإضافة إلى مجموعة من التهديدات الأخرى مثل اتساع النفوذ السياسي للشركات الكبرى على حساب السيادة الوطنية للدول النامية والأكثر فقراً، وضعف المناعة تجاه الصدمات الاقتصادية الخارجية، وسياسات الحماية والإغراق تجاه منتجاتها لا سيّما الزراعية منها، علاوة على فقدان التنوع الاقتصادي والثقافي نتيجة للتوحيد القياسي والعلامات التجارية العالمية المهيمنة.

تزداد مشاكل الدول النامية تعقيداً بتعميق احتكار الدول المتقدمة للتكنولوجيا والتي حوّلت الاقتصاد العالمي إلى الاعتماد على الأصول غير الملموسة مثل البرمجيات، والتي لا تتطلب سلاسل توريد معقدة، بالإضافة إلى تسارع وتيرة الرقمنة، وبروز دور الذكاء الاصطناعي، كل ذلك بالتوازي مع تغيّرات مناخية حادة تعيد رسم خريطة الإنتاج الزراعي حول العالم.

يعاني العالم اليوم أزمة شح بعض المنتجات علاوة على أزمات سلاسل التوريد، بالإضافة إلى تغوّل الاقتصاد المالي على الاقتصاد الحقيقي، وهو ما تسبب في معدلات تضخم قياسية في معظم دول العالم، وذلك يعني أن الشكل الجديد للنظام الاقتصادي العالمي سيكرّس تلك الآثار السلبية التي استنبتت في الماضي ولكنها من المؤكد نضجها واستفحال آثارها السلبية على أغلب دول العالم خلال السنوات القليلة القادمة.

الانعتاق من التبعية الاقتصادية وهيمنة الدول الكبرى والإفلات من التداعيات الاقتصادية للنظام العالمي الآخذ في التشكل، يحتاج بداية لإرادة سياسية حازمة، ممزوجة بعمل دؤوب للتخلّص من أدوات ومؤسسات الهيمنة، ومساندة من جمهور واعٍ، يتحمل آلام فترة مخاضٍ لن تطول لمن يملك العزيمة والتصميم.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً