Tunisia Political Crisis (Hassene Dridi/AP)
تابعنا

لقد ظهر الرئيس بمدينة سيدي بوزيد ليلة 21 سبتمبر/أيلول متوتراً فزعاً، ومدد فترة الأحكام الانتقالية وصرح بشبه برنامج سياسي يتمثل في السعي لوضع قانون انتخابي جديد والتمهيد لانتخابات سابقة لأوانها، ولكن لم يقدم أية حلول للأزمة الاقتصادية التي تجثم على صدور الناس وتهدد مليون موظف عمومي بانقطاع الرواتب.

سنفصل هنا بعض مظاهر تآكل رصيد الرئيس وفشل انقلابه. وأجزم بأن حراك 26 سبتمبر/أيلول غيَّر أفكار الكثيرين ومواقفهم في الداخل والخارج، فالشارع صرخ بقوة: "الشعب يريد ما لا تريد".

حزب فرنسا يقفز من المركب

نعني بحزب فرنسا مكونات الطيف اليساري أو الحداثي الذي يمسك مفاصل الدولة منذ عهد بن علي، وهو مبثوث في الجامعة والنقابات وكثيراً من وسائل الإعلام ومواقع الإدارة الفعالة وبخاصة في النقابات الأمنية.

وهذا الطيف صوَّت في انتخابات 2019 ضد قيس سعيد وكان يصمه بالداعشي وأنه يد النهضة الخفية في الرئاسيات، وقد ناصر أغلبه نبيل القروي، ثم انتقل في هجرة جماعية منظمة بأمر من جهة ما وراء قيس سعيد وشكَّل حزامه السياسي وآلته الدعائية. وقد اتضحت وجوهه وأسماؤه يوم الانقلاب. لكنه يقفز الآن من مركب قيس سعيد ويترك حوله فراغاً كبيراً.

في مقدمة هؤلاء كل الذين عملوا على أن يدخل الرئيس منذ اليوم الأول عملية تصفية لحزب النهضة لتكملة عملية حرق مقرات الحزب التي كانت عملية منظمة بعناية ليلة 25. لم يفتح الرئيس على نفسه هذه الجبهة، وفضَّل الحديث عن مقاومة الفساد، لكنه لم يحقق أية نتائج تذكر، وكل خرجاته كانت عمليات دعائية فاشلة، ونرجح أنه اكتشف عمق العملية وخطورتها على وجوده فخاف الخوض فيها فخسر على الجهتين. فلا الاستئصاليون ربحوا ولا الفاسدون خسروا، وهو ما ترك الانقلاب معلقاً كوعد طفولي بلا حول ولا قوة.

مظاهرات في العاصمة التونسية ضد انقلاب الرئيس قيس سعيد  (Reuters)

عدلت النقابة موقفها من الانقلاب بعد ابداء حماسة له، وصدح نقابيون من غير اليسار بنقد شديد اللهجة للرئيس، وغيَّر حزب التيار موقفه بعد انخراط مبدئي في مناصرة الرئيس قادتْه النائبة سامية عبو.

طيف واسع من المحامين تميز بموقف جذري معارض ونراه جر وراءه أغلبية من جسم المحاماة ضد الانقلاب، بينما اتخذ القضاء مواقف معارضة بقوة لمحاولة الرئيس الاستحواذ على السلطة القضائية. لكن المرسوم 117 جعل السلطة القضائية من جديد تحت يد الرئيس بما أثار سخط الجهاز القضائي برمته، ونرجح أن ذلك لن يمر من دون قطيعة بين القضاء والرئيس.

على كل هذا الجبهات فقدَ الرئيس سلطته وبقي له أن يتقدم بحكومة تملأ الفراغ الذي خلقه بيديه بحل حكومة المشيشي، وهو عاجز حتى اللحظة عن إعلان اسم أو إظهار وجوه وزراء لجمهور تزداد حيرته من خطاب الرئيس.

أربعة أحزاب صغيرة قياداتها أكثر من قواعدها أصدرت بيان مساندة للرئيس بعد إصدار المرسوم 117، لكنها لم تسر في الشارع مساندة له.

الشارع يستفيق بالتدريج

حشد شباب متعدد المشارب السياسية ليوم ثانٍ ضد الانقلاب يوم 26 سبتمبر/أيلول بعد حشد يوم 18، وقد تفاجأ المنظمون أنفسهم يومها بكثافة المشاركة التي أرادوها رمزية فإذا هي جماهيرية.

وقد رفعت شعارات سياسية واضحة وشديدة اللهجة ضد الرئيس وسمعت أصوات تدعو لمحاكمة الرئيس، بما يكشف موقفاً جذرياً ضده، وقد ازداد الموقف قوة يوم 26 إذ رفع شعاراً مفصلياً؛ "الشعب يريد عزل الرئيس".

يتقلص أنصار الرئيس ويتسع طيف معارضيه ويسكت أنصار ومبررون لم يعطهم الرئيس ما به يواجهون الشارع الحائر والمضطرب؛ إنه يخذل من كان معه ويقدم حججاً إضافية لمعارضيه، حتى إن البعض بدأ يحسب له أيامه الأخيرة في الحكم وهو تفاؤل مفهوم وإن كان مبالغاً فيه.

ونرى أن إحدى الرصاصات التي أطلقها الرئيس على قدميه هي موقفه من ليبيا، فقد أخسر ولايات الجنوب فرص عمل وتجارة مجزية مع السوق الليبية. وللتذكير فإن ولايات الجنوب صوتت له بنسب تقارب 100%.

لقد أغلق بسياسته الحدود في وجه عمالة كانت ترابط عند المعابر تنتظر إعادة الإعمار لتشارك بقوة عملها، وزاد الأمر سوءاً أن هذه الفرص الخدمية والتجارية غنمتها مصر بلا جهد. وقد وصلت الباصات من الجنوب للمشاركة في حراك 26.

لا نراه يفتح أفقاً لأحد

إصرار الرئيس على إبطال فعل المؤسسات المنتخبة واتجاهه بلا بصيرة إلى إبطال العمل بالدستور والاعتماد على مراسيم استثنائية يغلق الباب بوجه كل راغب في مفاوضة وحل وسط.

إنه يصم أذنيه عن دعوات الحوار السياسي الصادرة من أحزاب ومنظمات وشخصيات وربما من جهات خارجية فاعلة.

لقد تحدث عن تعديل القانون الانتخابي بمرسوم من خارج البرلمان، وهو أمر مخالف لأحكام الفصل 70 من الدستور، وهو يستعد بذلك للبناء على باطل قانوني، ويحمل البلد وزر رغبته الخاصة بما يزيد في تعقيد وضع البلد السياسي.

مع هذا هو يحظى حتى الآن بمعارضة مسالمة لم ترابط في الشوارع ولم تحدث الفوضى غير القابلة للضبط، لكنه يرد عليها على طريقة معمر القذافي، فهي مخمورة ومؤجَّرة بالمال.

هذا الهروب إلى الأمام خطير على السلم الأهلي وعلى البلد عامة، وهو يؤجل كل الحلول الاقتصادية والاجتماعية التي انتظرها الناس ممن قبله، فزايد عليهم بحلها، فضاعفها وأدخل البلد في مسار خراب اقتصادي لا نستبعد أن يعلن إفلاسه قريباً.

وإنه ليؤلم كل عاقل أن يقف في هذه اللحظة من تاريخ البلد وينتظر عوناً خارجياً يوقِّف الرئيس عند حده ويرده عن غيه. كل عقلاء البلد هاربون من هذا الاحتمال اللا وطني بل الخياني، ولكن الرئيس يدفع إليه دفعاً فيفتح على خراب غير قابل للترميم.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً