تابعنا
حينما أصبح كتاب مايكل كوهين الذي نشر تحت عنوان "مذكرات خائن" متاحاً للجمهور في أواسط العام الماضي لم يحقق صدى كبيراً عند القراء، رغم أن كوهين كان محامي الرئيس ترمب ومستشاره القانوني الأهم.

نشر الكتاب لما كان كوهين مسجوناً بعدة تهم أبرزها الفساد وانتهاك القانون، وهو ما جعل الانتقاص من قدره سهلاً، بخاصة أنه كان يكيل اتهامات شديدة الخطورة للرئيس ترمب وهو يشرح طريقة تفكيره وعمله التي اعتبر أنها لا تحدها أي حدود أخلاقية.

اتهم كوهين في كتابه ترمب بأنه قد يسعى لقتله حتى لا يستمر في الحديث وفي نشر أسراره وفضائحه، بخاصة أنه كان ملازماً له لما يزيد على الخمسة عشر عاماً وهي فترة كافية لجعله ملماً بالكثير من دقائق حياته.

اللافت أنه، وللتدليل على وجه ترمب الوحشي غير المرئي، ذهب كوهين إلى حد القول إن التداول السلمي للسلطة الراسخ أمريكياً كان مهدداً في حالة عدم فوزه بالرئاسة.

لم تُستقبل هذه الاتهامات بالجدية الكافية وكان سهلاً على البيت الأبيض وعلى الرئيس ترمب أن يقلل منها أو أن يعتبر أنها مجرد أكاذيب، لكن مشهد اقتحام الكونغرس من قبل أعداد من المتحمسين لدونالد ترمب في السادس من يناير/كانون الثاني يجعلنا نستعيد تلك الشهادة، بخاصة مع تأكيد الإعلام الأمريكي وجود أدلة على ضلوع ترمب في التحريض على ذلك.

سبب الاقتحام كان الاعتراض على نتائج الانتخابات الأمريكية التي ربحها الديمقراطي جو بايدن. وبدا واضحاً لنا ونحن نتابع الحدث أن أعداداً كبيرة من المهووسين كانوا مؤمنين بالرواية التي تبناها أنصار ترمب والتي تؤكّد أن هذه الانتخابات لم تكن نزيهة وأن الديمقراطيين تلاعبوا بها لأجل إبعاد مرشحهم وإقصائه، وهي نظرية مؤامرة تمتدّ وصولاً إلى اتهام مجلسَي النواب والشيوخ اللذين صدّقا على نتيجتها بالتواطؤ. هذه الاستنتاجات غير المنطقية تفسر حالة الهياج التي انتابت المقتحمين الذين بدؤوا الاعتداء على المكان بشكل غوغائي كأنهم كانوا يبحثون عن هؤلاء النواب لمعاقبتهم، لينتهي اليوم بنتيجة حصادها مقتل وإصابة عدد من الأشخاص في مشهد فريد من نوعه في تاريخ الديمقراطية الأمريكية.

لم يكن غبار معركة الكونغرس قد هدأ حتى تسرب إلى الإعلام محتوى تقرير أعدّه مكتب التحقيقات الفيدرالي مفاده أن التحركات العنيفة لأنصار ترمب لا تزال بعيدة عن النهاية، وأن الأيام القادمة قد تحمل مفاجآت أكثر درامية، من قبيل محاولة اقتحام مسلحين للمباني الحكومية الرئيسة في العاصمة والولايات.

تعاملت الأجهزة الأمنية مع هذا التهديد بجدية معلنة إغلاق شوارع رئيسة في العاصمة واشنطن تأميناً لحفل تنصيب جو بايدن ولتفويت الفرصة على العناصر الفوضوية التي قد تحاول اقتحام المكان، كما بدأت خطوط الطيران في اتباع إجراءات جديدة للتأمين تشمل منع بعض الشخصيات التي يُظَنّ أنها تشكّل خطورة من السفر على متن الطائرة. في ذات السياق نجد أن موقع ترمب المفضل (تويتر) لم يكتفِ فقط بحذف حسابه، بل مضى لحذف آلاف الحسابات الأخرى لمناصريه، مبرراً لذلك بالحفاظ على السلامة العامة.

في أثناء ذلك قام الديمقراطيون الذين يمثلون أغلبية في مجلس النواب بالعمل على معاقبة ترمب عبر التحضير لعزله ومحاكمته. وظهرت مرة أخرى نانسي بيلوسي، رئيسة المجلس، وهي تصف ترمب بأبشع العبارات معتبرة أنه غير جدير بتكملة فترة الرئاسية وإن لم يتبقَّ له منها سوى بضعة أيام.

اعتبرت بيلوسي أن هذا الإجراء، العزل، مهم لتأكيد أن لا أحد فوق القانون، كما اعتبرت أن الرئيس الذي يحرّض الجماهير على التمرد هو خطر واضح على البلد.

بيلوسي تقول التحرك نحو مساءلة ترمب سيشجع على مناقشة تفعيل التعديل الخامس والعشرين لعزل ترمب من منصبه (Reuters)

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها ترمب خطر العزل، إذ كانت المرة الأولى في نهاية العام 2019 عقب فضيحة محاولته الاستعانة بالرئيس الأوكراني من أجل التجسس على منافسه بايدن، التي كاد يفقد منصبه بسببها لولا تضامن الجمهوريين الذين يشكّلون الغالبية في مجلس الشيوخ معه وعرقلتهم الإجراء.

العزل هذه المرة مختلف، فهو لرئيس انتهت ولايته بالفعل، لذا فهو يبدو فعلاً رمزياً أكثر من كونه ذا تأثير سياسي حقيقي، بخاصة أنه، في كل الأحوال، لن تكتمل الإجراءات بالعرض على مجلس الشيوخ قبل الموعد الرسمي المضروب كنهاية للحقبة الرئاسية، وهو العشرون من هذا الشهر.

يجب هنا أن نضع في الاعتبار أن الإجماع المطلوب بطريقة الثلثين يظلّ أمراً صعباً رغم ترويج البعض للقول بأن الجمهوريين قد يتخلون عن ترمب باعتباره أصبح بطاقة محروقة.

رمزية الفعل تكمن في الاتفاق حول أن هذا التعدي على قلعة الديمقراطية الأمريكية يجب أن لا يمرّ دون عقاب، وهو السبب الذي بدا مقنعاً ليس فقط للنواب الديمقراطيين المنافسين، ولكن أيضاً لبعض النواب الجمهوريين الذين صوّتوا لصالح قرار العزل رغم ما يمثّله ذلك من خطر على مستقبلهم السياسي. بالمقابل فإن للمعترضين على الإجراء آراءً وجيهة أيضاً، أهمّها الخشية من تفجير غضب المناصرين لترمب والذين قد يعبّرون عن غضبهم من خلال الخروج في مظاهرات مسلحة، مما سيعرّض حياة الكثيرين للخطر.

بين عشية وضحاها تَحوَّل دونالد ترمب والحركات التي تناصره إلى أعداء للدولة الأمريكية التي بدت مؤسساتها الكبرى، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، عازمة على عزلهم ومقاطعتهم، بل مضى بعض الجهات إلى أبعد من ذلك معلنة الاستغناء عن موظفيها الذين شاركوا في تلك التظاهرة التي امتزجت بالتخريب. الجميع بدا عازماً على إنهاء الرجل الذي مثّل ظاهرة استثنائية وفريدة طوال فترة رئاسته، بما يصل إلى حد السعي لجعل ترشحه مستقبلاً وعودته إلى الحكم أمراً مستبعداً.

حالياً تبدو النقطة المتعلقة بمنع ترمب من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وكل وسيلة أخرى من أجل التعبير عن وجهة نظر مثيرة للجدل، إذ يرى كثيرون، حتى من غير أنصاره، أن المؤسسة الأمريكية الحاكمة التي تهيمن بشكل ما على هذه الأدوات قد مضت بعيداً في إغلاقها هذه البوابات الإلكترونية في وجهه. يقول هؤلاء إنه إذا كان ترمب متهَماً باحتقار الصحافة وبسعيه إلى تضييق نطاقات حرية التعبير، فإن هذه الإجراءات العقابية التي تشمل أيضاً الحملات والجمعيات المؤيدة لترمب تبدو هي الأخرى منتهكة لحرية التعبير، ما يؤكّد أن شبكات التواصل، وإن بدت مؤسسات ربحية مستقلة، فإنها مرتبطة بشكل ما بالمزاج الحاكم.

من الناحية القانونية ما زال موقف ترمب متماسكاً، فالتظاهر بحدّ ذاته ليس جريمة، أما الاتهامات الأخرى بالتحريض على الاقتحام والتخريب والاعتداء فتبدو هي الأخرى بلا دليل، لذلك فأغلب الظنّ أن هذه المحاكمة، إن عُقدت، سوف تقود إلى تبرئته، وهو ما سيهدم الحجج التي ساقها أعداؤه الذين أرادوا أن يصوّروه كأحد الزعماء الشموليين الذين يخيّرون شعوبهم ما بين بقائهم والفوضى الشاملة.

على الصعيد الدولي يحظى دونالد ترمب بالقليل جداً من المتعاطفين. السبب في هذا معروف، فقد ظلّ طوال فترة حكمه ممثلاً للبروتستانتية المسيحية البيضاء والعنصرية ومعادياً بشكل صارخ لجميع الأقليات، ليس فقط اللاتينيين والسود والمسلمين، ولكن حتى الطوائف المسيحية الأخرى، ما جعل البعض يميل إلى القول إن عداءه لبيلوسي مردّه بالدرجة الأولى إلى كونها امرأة وكاثوليكية.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً