متظاهر يرفع علم أوكرانيا أمام البيت الأبيض  (Kevin Lamarque/Reuters)
تابعنا

الدلالة المباشرة للعملية الروسية العسكرية في أوكرانيا تتمثل في تعزيز شكوك حلفاء الولايات المتحدة في قدرة ورغبة الأخيرة في حمايتهم والدفاع عنهم وسط بيئة دولية متقلبة تعطي مساحة أوسع لقوى دولية وإقليمية لفرض معادلات أمنية واستراتيجية جديدة بمعزل عن البيئة الاستراتيجية الدولية التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة.

رد الفعل الأوّلي للولايات المتحدة والناتو ضد تنفيذ روسيا عملية عسكرية في أوكرانيا، سواء كانت جزئية أو شاملة، سيكون له تأثير بالغ على موازين القوى الدولية لما يشكله ذلك من اختبار عملي لاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الساعية للتقليل من تدخلاتها العسكرية حول العالم، وسعيها لدفع حلفائها لتحمل مزيد من المسؤولية لحماية المصالحة المشتركة للغرب. وقد يشكل استغلال روسيا للمرحلة الانتقالية التي تمر بها الاستراتيجية الأمريكية الشاملة بفرض حقائق جديدة تهديداً حقيقياً يؤثر على قدرة الولايات المتحدة المواصلة في إعادة تموضعها الاستراتيجي الدولي وتغيير مراكز الثقل والتركيز لديها.

كما من المحتمل أن تشكل المواجهة الحالية في شرق أوروبا بداية لتحولات عملية لدى حلفاء الولايات المتحدة بضرورة أن يعيدوا النظر بالاعتماد عليها في حمايتهم، مما يشكل فرص لنشوء تحالفات جديدة ذات طابع إقليمي تقلل في حساباتها من العامل الأمريكي. الأمر الذي يعني بالضرورة أن النظر إلى مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ستتراجع مكانته في نظر حلفائها عوضاً عن أعدائها.

ويبدو أن تحدي الصين بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية يشكل إطاراً لاستراتيجية شاملة يصعب الحياد عنها رغم ما تشهده أقاليم عديدة في العالم، كان آخرها شرق أوروبا، من تحولات جيوسياسية ورسمٍ لخرائط جديدة تؤثر على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة مهيمنة في النظام الدولي.

اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي استراتيجية تهدف إلى محاصرة روسيا في مجالها الحيوي المتمثل في حدود الاتحاد السوفيتي السابق. فعملت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أيضاً على تقديم الدعم السياسي والعسكري لبلغاريا وجورجيا ورومانيا وتركيا وأوكرانيا لمساعدتهم على بناء معادلة ضد لعب القوة الروسية دوراً أكبر في البحر الأسود ولإقناع جميع دول البحر الأسود بالامتثال للاتفاقيات الحالية التي تضمن حرية الملاحة وحق "المرور البري" في المياه الإقليمية. وكذلك الحال مع جورجيا وأوكرانيا لتحديث جيوشهم في إطار التعاون المعزز مع الناتو، للحد من التحركات الروسية الهادفة إلى تقويض دور الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في المنطقة.

في المقابل، قدمت روسيا مطالبها لضمانات أمنية مشتركة مع الولايات المتحدة ودول الناتو. إذ تصر روسيا على عدم توسع الناتو ليشمل دول الاتحاد السوفيتي السابق، وعدم وضع أنظمة أسلحة هجومية في شرق أوروبا يمكن أن تصل إلى الأراضي الروسية، وسحب البنية التحتية العسكرية التي أنشأها الناتو في أوروبا الشرقية منذ التوقيع وثيقة تأسيس العلاقات مع روسيا عام 1997.

وتعد المطالب الروسية ذات سقف مرتفع وهو ما قد يفهم كونه الإطار التفاوضي الذي تسعى روسيا للمناورة من خلاله. وهو يعبر، في نفس الوقت، عن التوجهات الاستراتيجية الروسية تجاه مجالها الحيوي. وتطالب أن يسفر التفاوض مع الغرب عن ضمانات موثقة لتطبيق هذه المطالب أو ما يمكن تحقيقه منها. إلا أن مسار التفاوض وفق لقواعد اللعبة السابقة قد بات خلف الظهر بالنسبة لروسيا التي من المحتمل أن تطور من مطالبها أو أن تصر على تمسكها بمطالبها دون إخضاعها للمساومة كما كان متوقع في سيناريوهات التفاوض قبل أن تبدأ العملية العسكرية.

وفي ظل محدودية الأطراف لاستخدام مصدر الضمان الرئيسي لفرض رؤاها الدولية والمتمثل بكسر حالة الردع النووي المتبادل، تبقى جميع الضمانات الأخرى خاضعة للشروط المتبادلة ولا يمكن الاعتماد عليها في ضمان مسار استراتيجي لأي من الأطراف، فإن تدابير الحد من الأسلحة، وجهود عدم توسع الناتو، وتدابير بناء الثقة والشفافية، والوقف الاختياري، وضبط النفس المتبادل أو المتعدد الأطراف، وما إلى ذلك، تعد في مجملها أدوات لتعزيز مساحة المناورة وزيادة القدرة على التنبؤ المتبادل وضمان اتخاذ القرارات العسكرية والسياسية المطلوبة. ومع ذلك، لا توجد معاهدات ملزمة قانوناً أو اتفاقيات ملزمة سياسياً يمكن أن توفر ضمانات مطلقة بتنفيذها. الأمر الذي دفع روسيا للتقدم خطوة للأمام لجعل الميدان الضمانة الرئيسية لأي عملية تفاوض مقبلة.

ويقع هذا في صلب الرواية الروسية، ففي السنوات العشرين الماضية وحدها، انسحبت الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاقات الأمريكية الروسية بشأن أنظمة الدفاع الصاروخي والصواريخ متوسطة المدى، ومعاهدة الأجواء المفتوحة المتعددة الأطراف، والاتفاق النووي الإيراني.

من المستبعد أن يكون لدى روسيا رهان استراتيجي على هكذا اتفاقيات تسعى للوصول لها في ظل انعدام الثقة في اتفاقيات "عدم الاعتداء". كما يعتقد الكرملين أنه يكاد يكون من المستحيل التوصل إلى أي اتفاقيات ملزمة مع الولايات المتحدة خاصة تلك التي تحتاج ان يصادق عليها ثلثا أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي. إذ اعترف بوتين نفسه بذلك عندما قال علناً إنه يريد أن يرى "اتفاقيات ملزمة قانوناً على الأقل".

ومع بدء العملية الروسية في أوكرانيا، بات الموقف الروسي متقدماً لفرض مزيد من الخطوات على الأرض. في ظل ما بدا موقفاً هزيلاً لحلفاء أوكرانيا الغربيين. وعجز أوكرانيا عن صد هجماته الجوية الأولى والتي تنقل وسائل إعلام عالمية إنها دمرت البنية التحتية لمنظومة الدفاع الجوي الأوكراني مما يصعب المهمة على أوكرانيا وحلفائها.

سبق وأن شنت روسيا عملية عسكرية ضد أوكرانيا وضمت شبه جزيرة القرم لكن ذلك ساعد في تعزيز علاقات أوكرانيا بالغرب وباتت النخبة الموالية للغرب في أوكرانيا أكثر تمركزاً في مؤسسات صنع القرار الأوكرانية. في هذه الجولة من المتوقع أن تستخدم روسيا الجزء الأكبر من مواردها العسكرية، القوات البرية والقوة الجوية وطائرات الهليكوبتر الهجومية والصواريخ القوية والبحرية، في حملة شاملة ومتطورة ومفتوحة. كما أن طبيعة رد الفعل الغربية ستحدد إذا كانت روسيا ستواصل عمليتها لتشمل أجزاء كبيرة من أوكرانيا، وليس فقط الشرق، والاستيلاء على العاصمة بهدف إقامة حكومة موالية لروسيا، إذ تتطلب مثل هذه الأهداف عملية أولية مكثفة، يتبعها دخول قوات إضافية يمكنها الاحتفاظ بالأراضي وتأمين خطوط الإمداد.

ولكن في نفس الوقت، ستفرض واقعة غزو أوكرانيا على بوتين صورة مشابهة لتلك التي حظي بها بوش وبلير إبان غزوهم للعراق. خصوصاً وأن روسيا عارضت على الدوام التدخلات الأجنبية واعتبرت ذلك مادة دعائية ضد الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص. كما أن تطور الوضع الميداني واحتمالية أن ينشأ حالة استنزاف لأي قوات روسية قد تتمركز في الأراضي الاوكرانية، قد يسبب ضغطاً أمنياً واقتصادياً على موسكو. كما يمكن أن تؤدي حرب الاستنزاف، التي قد تعصف بأكبر دولة في أوروبا، إلى زعزعة الاستقرار في القارة برمتها. وتكون نقطة تحول لمستوى جديد من الأزمات بين الناتو وروسيا وربما ساحات قتال جديدة. فلأول مرة، منذ عقود، يقف الأمن الأوروبي والعالمي على حافة الهاوية بهذا الشكل الهش.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً