حمدوك (Reuters)
تابعنا

وقد أعطى حمدوك جملة مبررات لاستقالته، من بينها الوتيرة المتسارعة للتباعد والانقسام بين شريكَي الحكم المدني والعسكري، الأمر الذي انعكس على مجمل مكوِّنات الحكومة والمجتمع، مما انسحب على أداء وفاعلية الدولة على مختلف المستويات.

والأخطر من ذلك وصول تداعيات تلك الانقسامات إلى المجتمع ومكوناته المختلفة وظهور خطاب الكراهية والتخوين وعدم الاعتراف بالآخر، وانسداد أفق الحوار بين الجميع، مما حال دون إكمال الدكتور حمدوك لمهتمه والعبور نحو الانتقال السلس للديمقراطية.

زوال "قحت" الأولى

استقالة حمدوك إذا تعني إعادة الأمور إلى مربع ما قبل اتفاق الشراكة الموقع في 17 أغسطس/آب 2019 بين المجلس العسكري الانتقالي وإعلان قوى الحرية والتغيير التي اشتهرت بـ"قحت"، والذي كان يتكون من أكثر من ثمانين قوة سياسية تولّت الحكم بعد سقوط البشير، وانفردت به في ما بعد أربعة أحزاب من بينها، مارست الإقصاء على الآخرين واستأثرت وحدها بالسلطة، وهي: الحزب الشيوعي السوداني، وحزب البعث العربي الاشتراكي جناح العراق، والتجمع الاتحادي المنشق عن الحزب الاتحادي الديمقراطي، وفصيل من حزب الأمة القومي بقيادة الدكتورة مريم الصادق المهدي.

كانت ممارسات الأحزاب الأربعة آنفة الذكر سبباً جوهريّاً في ما آلت إليه الأمور في السودان، فقد فشلت قوى إعلان الحرية والتغيير فشلاً ذريعاً في إدارة مقاليد الحكم، إذ جاءت بعناصر لا خبرة لها مطلقاً في إدارة مؤسسات الدولة، ما أصاب كثيراً منها بالشلل التامّ، وأدّى إلى انسداد الأفق.

غياب حمدوك عن المشهد وتَضعضُع حاضنته السياسية قد يعني خلط الأوراق من جديد وصعود مكونات أخرى كانت على الهامش، مثل قوى "الحرية والتغيير منصة التأسيس" وتحالف قوى "الحراك الوطني" بقيادة د.التجاني السيسي الذي يضمّ "الحرية والتغيير منصة التأسيس"، وتحالف "سودان العدالة" وحزب "الأمة الوطني" والحزب "الاتحادي الديمقراطي" و"مؤتمر البجا" و"الجبهة الوطنية للتغيير"، يضاف إليها قطعاً الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام.

تحديات الشراكة الجديدة

وعلى الرغم من أن الشركاء الجدد قد يكونون أكثر تناغماً مع المكون العسكري، فإنهم سيواجهون معاً عدة مصاعب، على رأسها إكمال مؤسسات الفترة الانتقالية، وفي مقدمتها: تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي ومؤسسات العدالة الانتقالية ومفوضيات السلام والحدود والانتخابات وصناعة الدستور والمؤتمر الدستوري وغيرها.

ومن المصاعب أيضاً العراقيل التي قد تضعها مكونات "قحت الأولى" التي خرجت من المشهد كالحزب الشيوعي السوداني وحزب البعث العربي الاشتراكي من خلال تحريك الشارع وبخاصة الشباب، يضاف إليها اتساع رقعة التفلتات الأمنية في العاصمة والولايات، وعلى وجه الخصوص ولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، فخلال الأسبوع المنصرم هاجم مسلحون يستغلون سيارات دفع رباعي مخازن برنامج الغذاء العالمي بمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، ونهبوا محتوياته، كما امتدت عمليات النهب والسلب لتشمل مقرّ بعثة الأمم المتحدة ومقتنياته ومقرّ الاتحاد الإفريقي في دارفور “يوناميد“، مع تزايد المخاوف من أن تشمل عمليات النهب والسلب المصارف والأسواق في ظلّ عجز حكومة الولاية عن حفظ الأمن والاستقرار بالولاية، وقد سبق نهبَ مخازن برنامج الغذاء العالمي بالفاشر عملياتُ نهب في عدة طرق تربط عواصم ولايات دارفور الخمس.

ومن مظاهر الفوضى الأمنية في العاصمة الخرطوم، الوجود الكبير للمسلحين التابعين للحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام داخل الأحياء السكنية، وذلك قبل أن يتم تنفيذ بند الترتيبات الأمنية المنصوص عليه في الاتفاقية الموقعة في جوبا في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2020 بين الحكومة الانتقالية و"الجبهة الثورية".

هذا الوجود الكبير للحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام في الخرطوم وعديد من عواصم الولايات يعزّز فرضية الحرب الأهلية، في ظل تطاول أمد الأزمة السياسية وعدم تنفيذ البنود المتعلقة بالتسريح وإعادة الإدماج.

دخول السودان في البند السابع

احتمال راجح أيضاً في ظل تطاول أمد الأزمة في السودان، وارتفاع وتيرة العنف في دارفور وجنوب كردفان وبعض مناطق النيل الأزرق، هو تحويل تفويض بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان “يونتاميس” من البند السادس إلى البند السابع، وهي البعثة التي جاءت إلى السودان بناءً على طلب مباشر من رئيس الوزراء المستقيل الدكتور عبد الله حمدوك، عبر خطاب بعث به إلى الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 27 يناير/كانون الثاني 2020، وبالفعل صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2524 وقد بات تدخُّل الأمم المتحدة في التفاصيل اليومية للشأن الداخلي السوداني جليّاً من خلال تصرفات الألماني فولكر بيرتيس، المبعوث الخاص للأمين العامّ للأمم المتحدة رئيس بعثة يونتاميس.

الانتخابات المبكرة

وفي حال استمرار انسداد الأفق السياسي الذي تَحدَّث عنه حمدوك يظلّ سيناريو الانتخابات المبكرة قائماً، فقد درج المكون العسكري على التلويح بالانتخابات كلما اشتدّ أوار الأزمة مع المدنيين، فخلال كلمته بمناسبة الذكرى 66 للاستقلال، جدّد البرهان تمسُّك مجلس السيادة الانتقالي بإجراء انتخابات حرة نزيهة وشفافة في وقتها المحدد منتصف العام المقبل، ولكن خيار الانتخابات ظلّ مرفوضاً من قوى إعلان الحرية والتغيير الأولى.

ومردّ ذلك عدم وجود ثقل جماهيري للأحزاب التي كانت تسيطر على السلطة باسم قوى إعلان الحرية والتغيير، فبينما لم يحصل حزب البعث العربي الاشتراكي على أي مقعد في آخر انتخابات ديمقراطية في العام 1986، نال الحزب الشيوعي ثلاثة مقاعد فقط في البرلمان الذي سيطرت عليه ثلاث قوى رئيسية، هي "حزب الأمة القومي" بقيادة الصادق المهدي بـ101 مقعد، و"الحزب الاتحادي الديمقراطي" بقيادة محمد عثمان الميرغني بـ63 مقعداً، و"الجبهة الإسلامية القومية" بقيادة حسن الترابي بـ51 مقعداً، أما ما يخشاه تحالف قوى الحرية والتغيير والقوى الخارجية التي تسانده فهو عودة الإسلاميين إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع بعد أن عاش الشعب السوداني تجربة “قحت“ في الحكم التي امتدت إلى ثلاث سنوات.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي