تجميد مفاوضات الحكومة السودانية والحركة الشعبية لأجل غير مسمى (AP)
تابعنا

ورغم نداءات الناشطين والدعوة للخروج والاحتفال بهذه الذكرى، إلا أن الحماس الشعبي ضعيف الاستجابة، بعد أن بدأت تتبدد طموحات وآمال التغيير مع ازدياد الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وتفاقم انعدام السلع والخدمات الضرورية، بخاصة الوقود وغاز الطهي والخبز والكهرباء وارتفاع وغلاء الأسعار على أبواب شهر رمضان الفضيل.

عامان منذ انطلاق شرارة الثورة، وطريق التحول الديمقراطي محفوف بالمخاطر والفشل، والمجتمع السياسي أكثر انقساماً على نفسه، والأزمات الاقتصادية تمسك بخناق البلاد، رغم خطوات التطبيع الاقتصادي مع المجتمع الدولي والمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، وإرهاصات تأهل السودان لمبادرة إعفاء الديون للدول الأكثر فقراً، والأثقل ديناً ( هيبك).

تمر الذكرى الثانية لانطلاق شرارة الثورة وبداية الاعتصام في وقت تشهد فيه ولاية غرب دارفور أحداث عنف وقتل جراء اشتباكات وعنف قبلي في مدينة الجنينة، راح ضحيته أكثر من ثلاثين قتيلاً و60 جريحاً. هذا إضافة إلى استمرار التوترات في مدن شرق السودان. وبوادر الانفلات الأمني الذي يعم معظم مدن السودان.

وفى الوقت ذاته احتدام الجدل داخل النخبة الوطنية حول توقيع اتفاق المبادئ، بين الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وبين عبدالعزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال، والتى أقرت بعلمانية الدولة، أي بفصل الدين عن الدولة ونبذ أي دين رسمي للدولة. أو بعبارة أخرى إبعاد الدين عن كل مناحي الحياة في البلاد. وجعلت الحركة الشعبية المسلحة إنفاذ ذلك شرطاً لازماً مقابل سحب مطلبها عن تقرير المصير.

ويرى كثير من الكتاب والمثقفين أن فرض علمانية الدولة على قاعدة اتفاق ثنائي بين قائد الجيش السوداني و قائد حركة تحرير السودان بجوبا يؤسس لدكتاتورية جديدة، لانعدام التفويض الدستوري الديمقراطي وأن مثل هذا الاتفاق يجب أن يقره برلمان منتخب. وهو ليس من مهام الفترة الانتقالية. في المقابل يرى الداعمون لعلمانية الدولة والمؤيدون لهذا الاتفاق خاصة من القوى الليبرالية واليسارية أنه يقدم الوحدة الوطنية على توجهات الهوية الاسلامية للدولة، ويخاطب انشغال الأقليات التي تعاني خوف تطبيق القوانين الإسلامية عليها.

وأن قاعدة المواطنة المساوية للحقوق والواجبات تتطلب دستوراً علمانياً لا مجال فيه لانحياز الدولة لأي دين. وأن هذا المطلب ظل شعاراً سياسياً حاضراً للقوى اليسارية والليبرالية منذ عام 1983، عندما أعلن الرئيس الأسبق نميري تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، وجرى تجديده فى مؤتمر أسمرة للقضايا المصيرية 1996، بواسطة القوى الحاكمة الآن والمعارضة حينها.

وإزاء ذلك انقسمت القاعدة السياسية بين مؤيد ومعارض لعلمانية الدولة، إذ اختار حزب الأمة، وهو من أعرق الأحزاب وأكثرها شعبية معارضة الاتفاق وإحالة الأمر إلى المؤتمر الدستوري القومي للتقرير بشأنه، أو من خلال برلمان منتخب انتخاباً ديمقراطياً، وأن هذا القرار ليس من مهام الفترة الانتقالية.

مقابل ذلك أعلن الحزب الاتحادي بقيادة مولانا محمد عثمان الميرغني وهو أيضاً حزب ينطلق من أطروحات وقواعد إسلامية -أعلن- دعمه وتأييده للاتفاق بل ووقع الحزب مذكرة تفاهم مع الحركة الشعبية جناح الحلو. كما شنت الأحزاب الإسلامية والسلفية في السودان هجوماً ونقداً لاذعاً على الاتفاق باعتباره خيانة لهوية الأمة وأن الأغلبية المسلمة في البلاد لها الحق في التعبير عن هويتها فى الدستور عبر إجراءات ديمقراطية، وانتخابات حرة.

جدد الاتفاق الصراع الأيدلوجى العلماني/ الإسلامى الذي وسم الحياة السياسية في السودان منذ عقود خلت. وهو صراع عده الدكتور التيجاني عبدالقادر المفكر والأستاذ الجامعي من الثنائيات المدمرة، ويجب تجاوزه لإصلاح الحياة السياسية، وتمسك بعض المثقفين من ذوي التوجهات الإسلامية والوطنية على أحقية الأغلبية المسلمة أن ترى في الدولة انعكاساً لهويتها الجامعة والتعبير عن القيم الإسلامية التي يعتقدونها، باعتبار أن الدولة هي كيان وظيفي مؤسسي هيكلي لا يمكن أن يكون محايداً تجاه عقيدة الأمة. وأن البرلمان الديمقراطي المنتخب هو المؤسسة الوحيدة التي تملك التفويض الشعبي والدستوري للتقرير في هذا الشأن.

يحتج المناوئون لهذا الاتفاق أن إعلان التوجهات الإسلامية في السودان جاء بعد إعلان جون قرنق رئيس الحركة الشعبية تمرده على الدولة السودانية، مما يعنى أنها ليست من أسباب الحرب، أو انفصال الجنوب لاحقاً في العام 2012 والذي جرى لتطلع النخبة السياسية الجنوبية للاستقلال من أجل الحكم واستغلال ثروات البلاد، إضافة إلى عوامل خارجية أبرزها رغبة الولايات المتحدة في دعم الانفصال بإضعاف الدولة السودانية تحت حكم البشير وكفكفة تأثيرها الإقليمي وخلق عازل جغرافي يحول دون التمدد الحضاري الإسلامي إلى قلب القارة الإفريقية. كما أن الشريعة الإسلامية لم تكن السبب في اندلاع النزاع في دارفور المسلمة، أو في جبال النوبة، حيث إن المطالب كلها كانت تتعلق بتنمية تلك المناطق، وتقاسم السلطة والثروة التي تدار مركزياً. كما أن التخلي عن الشريعة الإسلامية لم تكن مطلب الثوار الذين خرجوا ضد نظام الإنقاذ، ولقد شهد الاعتصام أمام قيادة الجيش السوداني أكبر تجمع لصلاة الجمعة.

لكن الناظر إلى جملة سياسات الحكومة الانتقالية، يدرك بوضوح أن خطوات التطبيع مع إسرائيل، وتعديل وإسقاط القوانين الإسلامية، وتبني مشروع علمانية الدولة يصب فى إطار تغيير هوية الدولة وتوجهاتها السياسية بصورة مغايرة لما كان سائداً طيلة الأربعين سنة الماضية، من أجل مزيد من الانفتاح على المجتمع الإقليمي والدولي وتمكين القوى الليبرالية واليسارية من صوغ مستقبل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في السودان وفق أهدافها وهو القضاء على الإسلام السياسي وتمكين مشروعها العلماني.

لكن يشير كثير من الباحثين إلى أن احتدام الصراع السياسي على علمانية الدولة لن يستطيع أن يغير من هوية التدين الفطري الشعبي السائد في السودان الذي يستند على حواضن اجتماعية وتقاليد راسخة خاصة في مجتمعات التصوف المنتشرة في أرجاء السودان. وقد أثبتت التجربة السياسية في السودان أن الصبر على التطور السياسي والدستوري الوليد أفضل للسلام والاستقرار من مشروعات فرض الأجندة الأحادية من فوهة البندقية لأن توازنات القوة عندما تعود لوضعها الطبيعي سيكون الوفاق الوطني القائم على احترام أغلبية أهل السودان هو القاعدة والأساس لكل الحلول الوطنية. وهو الأمر الذي تفتقده بشدة الساحة السودانية الآن.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً