تابعنا
تفاقمت الأزمة بين الحريديم والقوى العلمانية والدينية الصهيونية منذ شنّت إسرائيل حربها على قطاع غزة، وفي هذه الحرب التي ما زالت متواصلة خدمت قوّات الاحتياط لأربعة أو خمسة أشهر متتالية قبل أن يُسرّح ويُعاد بعضهم لفترات خدمة أقصر.

يتكون المجتمع الإسرائيلي من مجموعات إثنية وتيارات فكرية متعددة ومتناقضة ومتضاربة، كانت قائمة في المجتمعات اليهودية قبل هجرتها إلى فلسطين ولاحقاً إلى دولة إسرائيل بعد عام 1948.

ومنذ نشأة الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا بوصفها حركة استعمارية علمانية والتحاقها وتحالفها مع القوى الاستعمارية الكبرى، ونجاحها لاحقاً بالاستيطان في فلسطين وإقامة دولة إسرائيل عام 1948 على أنقاض المجتمع الفلسطيني، برز التناقض بين التيارات الفكرية اليهودية: الصهيونية العلمانية من جانب، والدينية الأصولية (الحريديم) من جانب آخر. ويتكون المجتمع المتدين (الحريدي) من مدارس فكرية وأصول إثنية متعددة، غربية (أشكنازيم) وشرقية (مزراحيم).

وعلى الرغم من الفروقات الداخلية بينها والمتعلقة بالتفسيرات التوراتية فإنها تشترك معاً في سمة أساسية، وهي أنّ الإنسان الحريدي خُلق للعبادة ودراسة العلوم التوراتية، وينتهج في حياته اليومية قيماً وسلوكيات يحددها التفسير التوراتي والمدرسة الفكرية التي ينتمي إليها، وتكون هذه عادة محافظة جداً وترفض بشدة منهج الحياة الغربي والاختلاط بين النساء والرجال وغيرها من القيم المجتمعية الغربية.

ومنذ إقامة دولة إسرائيل برز الخلاف الواضح بين القوى العلمانية والحريديم في قضية التجنيد الإلزامي في جيش الاحتلال الإسرائيلي، عارضت مجموعات الحريديم التجنيد واعتبرته من المحرّمات التي ينبغي محاربتها، فالجيش لا يوفر للحريدي إطاراً مجتمعياً أو دينياً مناسباً لسلوكياته وطرق معيشته، ويُبعده عن ممارساته ودراساته الدينية.

وفرضت إسرائيل منذ إقامتها على مواطنيها اليهود الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفي خمسينيات القرن العشرين توصل رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك دافيد بن غوريون مع زعامات الحريديم إلى استثنائهم وإعفائهم من الخدمة العسكرية الإجبارية، الذي ما زال معمولاً به حتى يومنا.

إعفاء الحريديم

لم يخدم الحريديم في جيش الاحتلال، وبعد وصولهم إلى سنّ التجنيد (١٨ عاماً) يواصلون حياتهم بالدراسة في المدارس الدينية الخاصّة بهم وبتمويل من ميزانية الدولة حتى إنهاء دراستهم وانخراطهم في سوق العمل في داخل مجتمعهم المغلق البعيد عن باقي فئات المجتمع اليهودي الصهيوني العلماني أو المتدين غير الحريدي. وما زال الحريديم، على الرغم من تعاظم نسبهم في المجتمع، يعيشون في معازل سكنية خاصة بهم.

هذا الإعفاء المتواصل للحريديم لم يرُق فئات سياسية عديدة في المجتمع الإسرائيلي وخصوصاً الملزمين بالخدمة العسكرية، وادّعت الحركات السياسية والمجتمع المدني الصهيوني العلماني وخلال عشرات السنوات أن الحريديم يعيشون على حساب الدولة ولكنهم لا يشاركون بأعباء الدفاع عن دولتهم لعدم خدمتهم في الجيش.

وتفاقمت الأزمة بين الحريديم والقوى العلمانية والدينية الصهيونية منذ شنّت إسرائيل حربها على قطاع غزة، وفي هذه الحرب التي ما زالت متواصلة خدمت قوّات الاحتياط لأربعة أو خمسة أشهر متتالية قبل أن يُسرّح ويُعاد بعضهم لفترات خدمة أقصر.

وشكلّت أحزاب الحريديم في الكنيست الإسرائيلي الحالي قوّة سياسية وازنة قوامها ١٨ عضواً تحالفت مع بنيامين نتنياهو لتشكيل حكومته الحالية، ومقابل هذا التحالف تحظى أحزاب الحريديم ومؤسساتهم الدينية والاجتماعية والثقافية بميزانيات هائلة تساعدهم في الحفاظ على خصوصيتهم والاستمرار في العيش بمعازلهم وحسب معتقداتهم الدينية والاجتماعية.

مطالبات تجنيد الحريديم

هذا الواقع دفع بأحزاب المعارضة الإسرائيلية لتجنيد مؤسسات مجتمعية وجمعيات أهلية علمانية معارضة للائتلاف الحكومي، للضغط بكل الوسائل لإسقاط الحكومة الحالية واستغلال كل الوسائل، وأهمها الضغط الجماهيري، لتغيير واقع الحريديم لإجبارهم على التجنيد في جيش الاحتلال وتغيير واقع مدارسهم الدينية لإدخال مواضيع تدريس علمانية كاللغات الأجنبية والرياضيات والفيزياء وغيرها، التي ترفضها مؤسسات الحريديم رفضاً باتاً.

وتوجهت الأحزاب والجمعيات العلمانية إلى المحكمة العليا مراراً في السنوات الماضية لاستصدار قرار قضائي يجبر الحكومة على إلغاء امتيازات الحريديم ومكتسباتهم السياسية وإجبارهم تحت مبدأ المساواة في الأعباء، وأهمها التجنيد الإلزامي في جيش الاحتلال.

ويسود في هذه الفترة ادعاء بأن الحرب على قطاع غزة أدّت إلى خسائر بشرية كبيرة في جيش الاحتلال الإسرائيلي من قتلى وجرحى، وأن أعداد المجندين في الجيش لم تعُد كافية في ظل المخاطر على جبهات القتال المختلفة. ويدّعي المقربون من جيش الاحتلال بأن الجيش الإسرائيلي ينقصه نحو 60 ألف مقاتل ليقوم بمهماته كما يجب.

ويدّعي هؤلاء أن الإمكانية الوحيدة لسدّ هذا النقص تكمن في المجتمع الحريدي، الذي يحظى بالإعفاء من التجنيد. ويرى المعارضون لهذا الإعفاء أن الحكومات الإسرائيلية التي تبنّت هذا الإعفاء من التجنيد أضرّت بمبدأ المساواة الذي يشكل أهم مبادئ الدولة الديمقراطية.

وفي ظل رفض الحكومة، التي تستند في وجودها الائتلافي على أحزاب الحريديم لإلغاء إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، توجهت مجموعة من الجمعيات المدنية المقربة من أحزاب المعارضة إلى المحكمة العليا لتصدر قراراً بإجبار الحكومة على إلغاء الإعفاء لتطبيق مبدأ المساواة في تحمّل أعباء الدفاع عن الدولة وأهمها الخدمة العسكرية المتساوية لأفراد المجتمع اليهودي.

وفي واقع الحال، وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها في مأزق حاد أمام هذا الادعاء، ورفضت المستشارة القانونية للحكومة المثول أمام المحكمة العليا للدفاع عن موقف الحكومة الذي تعتبره ضعيفاً قضائياً. واستشعرت أحزاب الحريديم الخطر الداهم الذي يهدد خصوصيتهم الدينية ويهدد مخصصاتهم المالية التي حصلوا عليها من الدولة على مدار عقود من الزمن، فخرجوا للتظاهر ضد مؤسسات الدولة وضد من يسعى لتغيير أنماط حياتهم بادّعاءات علمانية والتهديد بقطع الميزانيات التي يحصلون عليها من الدولة حسب الاتفاقات الائتلافية.

وفي كل مرّة يحصل مثل هذا التهديد يخرج الحريديم للتظاهر بمظاهرات عنيفة ضد الدولة العلمانية، مما أبرز التناقض ما بين دولة إسرائيل العلمانية ومجتمع الحريديم الذي يرفض رفضاً تاماً أي تغيير بمنهج حياته وعلى الخصوص التجنيد في جيش الاحتلال الإسرائيلي.

الحرب على قطاع غزة وخسائر جيش الاحتلال الإسرائيلي البشرية عمّقت الأزمة بين الحريديم والعلمانيين، وعمّقت الأزمة التي تعاني منها الحكومة، إذ إن زعماء الحريديم وأحزابهم لن يقبلوا بأي قرار قضائي يمس حقوقهم.

ويعيش المجتمع الإسرائيلي حالياً حالة ترقّب لما ستنتج عنها الأزمة الحالية وهل تستطيع الحكومة الحالية إقناع المحكمة العليا بإمكانية استمرار الوضع القائم بإعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية واستمرار تمويل مؤسساتهم المجتمعية والدينية.

وأياً كان المخرج القضائي لهذه الأزمة فإنها ستثور من جديد عند كل منعطف، العلمانيون يعتبرونها تمسّ بمبدأ المساواة بين أعضاء المجتمع اليهودي في إسرائيل، أمّا الحريديم فيرون فيها تدخلاً في شؤونهم الداخلية ومحاولة علمانية لفرض نمط من الحياة يتعارض جوهرياً مع معتقداتهم.

هذا الصراع سيبقى متواصلاً، خصوصاً أن الحريديم في تزايد ديمغرافي متواصل، فنسبة التكاثر الطبيعي عندهم هي الأعلى في إسرائيل ويشكلّون حاليا نحو 14% من سكان إسرائيل.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً