تابعنا
لعل هذا السؤال كان محور أحاديث التونسيين مساء السبت وهم يتابعون بشغف لأول مرة مناظرات بين مرشحين لانتخابات ديمقراطية.

وما بين معاني الفخر والتباهي بهذه الحالة المتفردة في المحيط الإقليمي العربي والإفريقي و النقد للمناظرة توزعت انطباعات التونسيين الذين اجتمعوا حول القناة العمومية التي بثت هذه "الحوارية" بين ثمانية مرشحين للاستحقاق الانتخابي المنتظر في 15 سبتمبر/أيلول الجاري.

وإذا كانت فكرة المناظرات جيدة على إطلاقها وهي تجربة تخاض في الديمقراطيات العريقة ويتابعها الناخب باهتمام كبير ليقارن بين الأطروحات والمقاربات المختلفة والمتناقضة التي يقدمها المرشحون، وهي تساعده على الاختيار الرصين بينهم، فإنها في التجربة التونسية التي مازالت جنينية تحمل الكثير من الهنات التي لاحظناها في المناظرة الأولى. 

وإذا ما رمنا تمحيص هذه التجربة الأولى فإننا لا نستطيع أن نلغي اعتبار التفرد والتميز لهذه المناظرات كحدث يمكن أن يكون مؤشراً من مؤشرات دخول تونس إلى نادي الديمقراطيات. كما أن اجتهاد التلفزيون الرسمي في تقديم عمل يتوفر على شروط المهنية والإنصاف كان واضحاً، وهو الذي غالباً ما كان في مرمى نيران النقد من الجميع على مستوى تعاطيه مع الفعل السياسي التونسي وحياده في التعامل مع الفاعلين السياسيين.

كما أن قبول المرشحين خوض تجربة المناظرة وامتثالهم لقوانين هذه اللعبة الجديدة على الجميع سياسيين وإعلاميين ومتلقين يستحق التنويه. 

لكن ماذا عن محتوى المناظرة الأولى التي تسمّر التونسيون أمام الشاشة الصغيرة لمتابعتها؟ وهل نجح المرشحون الطامحون إلى الوصول إلى قصر قرطاج في إقناع الناخبين؟ 

أول ملامح ضعف المناظرة، كما قدمها التلفزيون التونسي، هي أنها كانت رتيبة وقُدمت بشكل مدرسي جعلت المتناظرين يبدون في مظهر الطالب الذي يجيب على أسئلة الأستاذ، واختلفت تماماً عن المناظرات القوية التي تقدم في الديمقراطيات العريقة والتي تقوم على المحاججة. 

كما أن وجود ثماني شخصيات في هذه المناظرة من شأنه التأثير على تركيز المتابع وجعله مشتت الذهن. ليس هذا فحسب بل غياب التفاعل بين المرشحين خلق حالة من البرود والجمود ساد حضورهم.

الأسئلة التي وُجهت إلى المرشحين أغلبها كان عاماً مع بعض الاستثناءات التي تفترض دقة الإجابة.

منيرة رزقي

وفوّت هذا على المشاهدين فرصة معرفة عمق بعض الشخصيات عن كثب. وهو ما لا يبرز إلا في حالات التفاعل المباشر التي تحيل على القدرة على الإقناع وتقبل الفكر المختلف، والتحلي بالهدوء الضروري في مثل هذه المواقف. 

وهذا ما استلهمناه من رموز مدرسة التفاعلية الرمزية في علم الاجتماع التي تبرز مكانة ما يعرف بالتفاعل وجهاً لوجه، وفيه تتحدد ملامح الكاريزما الشخصية التي لا تتكشف سوى من خلال النقاش العميق والمواجهة المباشرة مع الآخر. 

وبالعودة إلى الأسئلة التي وُجهت إلى المرشحين فإننا يمكن أن نقول إن أغلبها كان عاماً مع بعض الاستثناءات التي تفترض دقة الإجابة، كما أن هناك أسئلة شملت بعض القضايا التي لا تدخل في باب صلاحيات الرئيس كما حددها الدستور التونسي.

أما إذا رمنا تقييم أداء المرشحين الذين قبلوا خوض هذه التجربة الجديدة على الجميع، فإننا يمكن أن نقول دون أن نجانب الصواب إن أداء المرشح عمر منصور كان الأضعف وهو القاضي الذي شغل عديد المناصب المهمة في الدولة التونسية؛ فقد كان وزيراً للعدل في مرحلة ما بعد الثورة بينما كان آخر المناصب التي تقلدها والي العاصمة التونسية. وكان له مريدون كثر فقد عُرف بصرامته وجديته في تطبيق القانون.

ولكنه أظهر ضعفاً اتصالياً فادحاً في هذه المناظرة وبدا مرتبكاً وهو يجيب عن الأسئلة، وجل إجاباته كانت خارج السياق فاقدة للمعنى والرمز، وهو ما شكل صدمة لبعض الذين راهنوا عليه وهو الذي يخوض هذه الانتخابات مستقلاً ودونما انتماء حزبي. 

كما أن أداء وزير التربية السابق والجامعي ناجي جلول لم يكن في مستوى المأمول؛ فقد بدا هذا المرشح غير قادر على تقديم إجابات دقيقة، وحافظ على أسلوبه المعروف في الاستطراد وكانت صورته أقرب إلى الأكاديمي والمحاضر منه إلى المرشح لأعلى منصب في الدولة الذي يرنو إلى إقناع الناخبين بالتصويت له.

كما أن الدكتور المنصف المرزوقي الرئيس السابق قد بدا متشبثا بفترة حكمه التي جعلها نقطة ارتكاز يعود إليها للمقارنة والاستلهام، وينطلق منها لبلورة أفكاره وهو ما جعله أسير سردية موغلة في الذاتية وفاقدة لرؤية مستقبلية.

في الأثناء بدا وزير الوظيفة العمومية والحوكمة السابق عبيد البريكي متوسطاً على مستوى الأداء والحضور، مفتقراً إلى قدرات تواصلية تجعله يقنع الناخبين رغم أنه قدم مقترحات وجيهة في بعض القضايا.

رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة كان الأكثر رصانة وعمقاً ودقة وهو يجيب عن الأسئلة المقترحة في المناظرة متسلحاً بتجربته في إدارة دواليب الدولة.

منيرة رزقي

كما لم تفلح القدرات الخطابية المعروفة للأستاذ عبد الفتاح مورو رئيس مجلس النواب بالنيابة ومرشح حركة النهضة على احتلال الصدارة رغم تميزه في بعض المحاور خاصة على مستوى الواقعية في الطرح.

في الأثناء بدا محمد عبو أمين عام التيار الديمقراطي ومرشحه للاستحقاق الانتخابي القادم، والوزير السابق واثقاً من أطروحاته التي توجه بها إلى الناخب التونسي، ومقنعاً في مواقف كثيرة مرتكزاً على تاريخه النضالي.

في حين عملت الأمينة العامة للحزب الدستوري الحر المحامية عبير موسي على تسجيل نقاط على حساب خصومها ولعلها الوحيدة تقريباً التي تأتي من خارج منظومة ما بعد 14 يناير/كانون الثاني 2011 والتي لا تخفي العداء الذي تكنه لها.

ووحده رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة كان الأكثر رصانة وعمقاً ودقة وهو يجيب عن الأسئلة المقترحة في المناظرة متسلحاً بتجربته في إدارة دواليب الدولة وبخبرته لاسيما في المسائل الاقتصادية ومعرفته بالشأن الدبلوماسي. ولعله كان الأكثر إقناعاً وبعيداً عن السفسطة في انتظار المناظرتين المتبقيتين وما سيكون عليه أداء باقي المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية في مرحلة دقيقة ومفصلية من تاريخ تونس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

أشخاص يشاهدون مناظرة تلفزيونية بين المرشحين للرئاسة في مقهى بوسط تونس ، تونس ، 7 سبتمبر 2019.  (Reuters)
أشخاص يشاهدون مناظرة تلفزيونية بين المرشحين للرئاسة في مقهى بوسط تونس ، تونس ، 7 سبتمبر 2019.  (Reuters)
TRT عربي