الوفدين الروسي والأوكراني خلال جولة المفاوضات الأولى التي عقدت برعاية تركية بمدينة إسطنبول . / صورة: AA (AA)
تابعنا

لقد كانت سنة 2022 سنة جمود وفشل للأمم المتحدة على مستويات عديدة، فهي لم تحقق أي اختراق في النزاعات القائمة المنتشرة في أكثر من 20 منطقة من العالم، من فلسطين إلى ليبيا ومن سوريا إلى اليمن ومن مالي إلى الصومال ومن أفغانستان إلى ميانمار ومن كشمير إلى الصحراء الغربية.

كما أن المنظمة الدولية لم تستطع أن تمنع نشوب الحرب الأوكرانية ولا استطاعت احتواء النزاع في إثيوبيا أو حل أزمة سد النهضة بين إثيوبيا ومصر والسودان، ولم تتمكن من وقف تدفق المهاجرين وقوارب الموت ولا احتوت أزمة المجاعة والجفاف في القرن الإفريقي.

لقد تفاقمت قضية الاحتباس الحراري التي سببت التغير المناخي الخطير الذي ظهرت آثاره على شكل كوارث طبيعية هائلة في كافة أنحاء الكرة الأرضية، كان أخطرها وأكثرها تدميراً فيضانات باكستان التي أغرقت ثلث أراضي البلاد وسببت خسائر كبيرة في الأرواح ودماراً في البنى التحتية يزيد عن الثلاثين ملياراً.

ونحن عندما نتكلم عن فشل الأمم المتحدة لا بد من التمييز بين مستويين: الدول الأعضاء والتي تعمل من خلال أجهزة الأمم المتحدة، من جهة، والأمين العام للمنظمة الدولية من جهة أخرى، والذي يعمل بشكل مستقل عن الدول ولديه صلاحيات واسعة حسب البند 99 من ميثاق الأمم المتحدة شريطة أن لا يخالف الميثاق.

لقد كشفت الأزمة الأوكرانية عن فشل الطرفين، فالدول الأعضاء الممثلة في مجلس الأمن لم تتمكن من وقف الهجوم الروسي بسبب الفيتو الروسي، لذلك رحّلت الأزمة إلى الجمعية العامة التي اعتمدت قرارات عديدة تحت آلية "الاتحاد من أجل السلام" الذي تلجأ إليه الدول عند شلل مجلس الأمن، لذلك تعقد دورة استثنائية خاصة لمناقشة البند الذي لم يحسمه مجلس الأمن.

نقطة الضوء الوحيدة التي شاهدناها في هذه الأزمة الكبرى هي الوساطة التركية لتسهيل بيع الحبوب الأوكرانية المحتجزة في موانئ البحر الأسود للتخفيف من أزمة الغذاء العالمية.

المبادرة التركية - الأممية

فشلت كل المساعي لفتح قنوات حوار بين روسيا وأوكرانيا تمتم بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز، لأن الولايات المتحدة لم تدعم التوجه إلى بوتين مباشرة لفتح حوار. على إثر ذلك قامت الجامعة العربية في نيسان/أبريل بإرسال وفد مكون من خمسة وزراء خارجية مع الأمين العام للجامعة للقاء بوتين وزيلينسكي، لكن لم يأخذهم طرفا النزاع على محمل الجد. ثم حاولت المملكة العربية السعودية في تموز/يوليو جس نبض الأطراف لكنها تخلت عن الفكرة. البلد الوحيد الذي لم ييأس ولم يكل ولم يمل، بل بقي يحاول منذ البداية هو تركيا.

لقد نجحت الوساطة التركية المدعومة من الأمم المتحدة في التوصل إلى اتفاق مهم بين روسيا وأوكرانيا، الطرفين المتنازعين منذ 24 شباط/فبراير الماضي، لأن تركيا تتمتع بعلاقات مميزة مع البلدين.

وبدل أن تُوزّع التهم وإصدار الأحكام القطعية وإطلاق التصنيفات على الأطراف المعنية، دخلت في حوار جاد مع الطرفين لتسهيل تصدير الحبوب الأوكرانية من مواني البحر الأسود بموافقة روسية وضمان مرورها الآمن، حيث تؤمّن السفن التركية الممرات البحرية لغاية وصول المياه الدولية وإيصال الحبوب للدول الأكثر تضرراً من أزمة الغذاء العالمية.

وقد جرى توقيع الاتفاقية التي أطلق عليها "مبادرة حبوب البحر الأسود" يوم 22 تموز/يوليو 2022 في إسطنبول بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وممثلين عن البلدين.

والغرض من المبادرة هو المساهمة في الوقاية من الجوع في العالم، والحدّ من انعدام الأمن الغذائي العالمي والتصدي له، وضمان سلامة وأمن السفن التجارية التي تدخل أو تغادر الموانئ الأوكرانية.

وأقرت الأطراف في هذه المبادرة بدور الأمين العام للأمم المتحدة في كفالة المناقشات المتعلقة بهذه المبادرة. وطلبت الأطراف من الأمين العام المزيد من المساعدة في تنفيذها، تعزيزاً للمهمة الإنسانية المنوطة بالأمم المتحدة ورهناً بسلطاتها وولاياتها.

ولتسهيل تنفيذ المبادرة فقد أنشأت الأطراف "مركز التنسيق المشترك" في إسطنبول، برعاية الأمم المتحدة، يتألف من ممثلي أوكرانيا والاتحاد الروسي وتركيا والأمم المتحدة. ويعمل المركز على مراقبة حركة السفن التجارية لضمان الامتثال للمبادرة؛ والتركيز فقط على تصدير الحبوب التجارية المتكدسة والسلع الغذائية ذات الصلة؛ وضمان مراقبة البضائع من الموانئ الأوكرانية ورصدها في الموقع؛ وأخيراً، الإبلاغ عن الشحنات التي جرى تسييرها من خلال المبادرة.

بدأت المبادرة تعمل من مركز التنسيق المشترك، وبدأت أطنان القمح والذرة والأسمدة تصل إلى الدول الأكثر تضرراً من أزمة الغذاء. وجرى تجديد الاتفاقية لمدة 120 يوماً أخرى برعاية تركية وأممية. حيث تمكنت هذه الترتيبات من التخفيف من نقص الغذاء العالمي عبر تصدير الحبوب من ثلاثة مواني في أوكرانيا.

لقد جاءت هذه المبادرة بفائدة عظيمة على الدول الفقيرة بخاصة التي تضررت من أزمة الغذاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية.

وقد شكر غوتيريش تركيا على الدور الرئيسي الذي لعبته للتوصل إلى هذه الاتفاقية واعتبر أن هذا الاتفاق يمثل "منارة إلى البحر الأسود، منارة إمكانية، منارة ارتياح في عالم يحتاج إليها أكثر من أي وقت مضى".

لقد لعبت الدبلوماسية التركية دوراً مفصلياً في هذه الاتفاقية وتمكنت من خلالها الأمم المتحدة، وبالشراكة والتنسيق التام مع تركيا، أن تُصدّر أكثر من عشرة ملايين طن متري من المواد الأساسية التي تحمي الدول الفقيرة من الجوع.

فثلث الصادرات تذهب مباشرة إلى الدول ذات الدخل المنخفض. فقد حصلت مصر على (8٪)، والهند وإيران (4٪ لكل منهما)، وبنغلاديش وكينيا والسودان (2٪ لكل منها)، ولبنان واليمن والصومال وجيبوتي (1٪ لكل منها)، وتونس (أقل من 1٪ بقليل).

لعل هذه المبادرة الناجحة التي أنجزتها تركيا بدعم من الأمم المتحدة تتسع لتشمل مفاوضات لوقف إطلاق النار بين البلدين والدخول في مفاوضات جادة في بداية العام الجديد للتوصل إلى اتفاقية سلام دائم بين البلدين.

وهو ما أعلن عنه الرئيس التركي أردوغان في لقاء كازاخستان في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وقال المستشار الدبلوماسي للكرملين يوري أوشاكوف للصحافيين إن "الأتراك يطرحون وساطتهم، فإذا كانت اتصالات روسية-أوكرانية ستحدث فإن ذلك سيكون على الأراضي التركية". نأمل أن تشهد الشهور الأولى للسنة الجديدة هذا الاختراق.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً